عشنا زمانا ونحن نتابع سياسيينا يتحدثون عن ازالة الفوارق بين القرية والمدينة. كما عشنا وتابعنا اعدادا من المثقفين المصريين الذين سافروا للدراسة فى الخارج وعادوا حاملين راية إصلاح القرية المصرية من خلال تطوير نسق الزراعة. فى الواقع امتلكنا بعض الافكار التى امتلكها الآخرون ولكنهم سبقونا واستطاعوا تطوير زراعتهم وبالتالى ريفهم وقراهم، اما نحن فلم نستطع تطوير النمط الزراعى وأبقينا عليه كما تركه لنا المصرى القديم. لأن كبار ملاك الارض عندنا كانوا اقوى سياسيا من مثقفينا ومن حركة فلاحينا. والنتيجة اننا نعيش الآن لنرى ونشاهد فارقا كبيرا بين المدن والقرى.
لا نستطيع أن ننكر ان الحقبة الناصرية شهدت بعض التطور فى ريف مصر. فقد قامت فيها الجمعيات التى ضمت الارشاد الزراعى والتعاونى والاجتماعى والطبيب والتعليم وبعض الانشطة النسائية ولكنها كانت مرتبطة بفترة حكم عبد الناصر. وهو نشاط توقف تماما بعد وفاته فتوقفت الفكرة وعاد الجمود إلى القرية وإلى الريف بأجمعه. ولكن استمر التعليم يقدم لأبناء الريف خاصة التعليم الاساسى ثم الإعدادى وفى النهاية الثانوي. وبعد إنشاء جامعة اسيوط فى الستينيات من القرن الماضى ازدادت حركة انشاء الجامعات الاقليمية بغض النظر عن نوع التعليم الجامعى ولكن استطاعت هذه الجامعات أن تقرب التعليم العالى من ابناء الريف بعد أن كان هذا التعليم رهنا بأبناء الطبقات العليا الريفية القادرة على إرسال ابنائها الى القاهرة او الاسكندرية.
وفى واقع الامر لانستطيع أن نقول إن كل المشروعات التى قدمت لريف مصر بعد ثورة يوليو قربت بين الريف والحضر او بين القرية والمدينة لسبب بسيط وهو انها مشروعات لم تكتمل او الأصح توقفت. فاستمر ريف مصر يعيش وهو يطالب بالإصلاح. أو بتعبير صحيح بإصلاح مرافقه كلها بحيث بات هذا الإصلاح مكلفا للغاية وبحيث باتت القرية المصرية مختلفة عن تلك التى عرفناها فى النصف الثانى من القرن الماضي، بشرا وأرضا. فالقرية القديمة كانت اقل عددا من البشر واكبر مساحة من الأرض الزراعية.وحتى من ناحية العدد فقد انفصل عن القرية عدد كبير من العزب والكفور والنجوع فبات الإصلاح لا يمس الاربعة آلاف قرية وإنما بات يخص عشرات التوابع مما زاد من تكلفة الاصلاح. بالرغم من تراجع الخدمات فى القرية فإن قضية التعليم نمت بقوة دفع من سكان الريف الذين لا يزالون يؤمنون ان التعليم هو اساس الحراك الاجتماعى فى المجتمع. لذا يمكن القول ان بعض حاملى الشهادات الجامعية باتوا من ابناء القرى خاصة بعد دنو الجامعة الاقليمية منهم.
وإذا تابعنا حركة تعليم الريفيين من ابناء المحافظات، منذ ان نشأت فى مصر المدارس العليا ثم الجامعة المصرية وانتشارها فسوف نفشل فى حصر الآلاف من هؤلاء الخريجين الذين درسوا كل فروع العلم وتخصصوا فيها ثم تبوأوا أعلى المراكز المهنية فى الجهاز الحكومي. فيمكن القول ان ريف مصر لم يقدم لنا الغذاء والكساء معا وفقط وإنما فى الوقت نفسه قدم لنا البشر المؤهلين الذين بنوا مصر كلها من شمالها الى جنوبها.ومع ذلك استمرت القرية المصرية تعانى التخلف العام لأنها كانت تربى اولادها وتنفق عليهم لتوفر لهم فرص التعليم ليتخرجوا ثم يتركوها. تعانى من ان مياه الشرب النقية لا تصل الى كل ساكنيها وان الكهرباء لا تصل الى كل منازلها وانها تحتاج الى نظام للصرف الصحى يحترم انسانيتها وخصوصيتها ويجعلها تعيش فى بيئة نظيفة كما تحتاج الى طرق تساعد اطفالها للتوجه الى المدارس بسهولة. الخلاصة تحتاج القرية المصرية الى مشروع قومى يعيد بناء كل الخدمات بها بحيث يعيش أبناؤها كما يقول احد سكانها لأحد الاعلاميين الذى يأخذ رأيه فيما يحدث الآن فى بلدته انا عايز اعيش زى البنى آدميين. وهو مطلب عادل لا يطالب به الريفيون فحسب وإنما يطالب به كل مصرى يسعى الى تقدم وطنه. فالوطن ليس العواصم وحدها وإنما هو كل موقع داخلى يرفع علم البلاد.
ومن الامور التى لابد من مناقشتها ونحن نتحدث عن حاضر ومستقبل القرية المصرية تأتى حقيقة ان القرى ليست جاذبة للبشر حتى لهؤلاء البشر الذين يولدون ويتعلمون بها. فأبناؤها يغادرونها فور تخرجهم إلا لو كان لهم فيها ارض تنتج. والسبب ان القرية المصرية لا تملك فرصا للعمل وبالتالى ليس بها فرص لحياة جيدة للبشر. فلا يجب ان نلوم ابناء القرية عندما يغادرونها بحثا عن الحياة المدنية العادية وإنما نلوم ظروف الريف الذى لا يملك فرص عمل ونمو الشباب الذى يتعلم من أبنائه. وبالرغم من مساواة الظروف الاجتماعية فى كل ريف مصر فإن بعض النماذج نمت خلال الفترة الماضية وتشير الى ان التطور يمكن ان يمس البشر كما يمس البنية التحتية. أهم عوامل نجاح أو تقدم هذه النماذج هو استمرار وجود ابناء القرية خريجى الجامعات واستمرارهم فى القرية دون ان يغادروها للعمل خارجها. والنموذجان اللذان اقدمهما هما قرية تيرة فى سوهاج ثم كفرى عبده ويحيى فى المنوفية. تقترب القرية الاولى من العاصمة سوهاج لذلك استقر فى القرية خريجوها وبدأوا يطورون فيها الحياة لتلائم احتياجاتهم خاصة ان المساحة الزراعية تآكلت بعد زحف المبانى عليها خلال فترة النفط وهجرة الريفيين الى بلدانه. فكثرت البيوت الاسمنتية التى سكنها الابناء الخريجون والذين التحقوا بالأعمال الادارية وغيرها فى العاصمة وفى المركز. أما القرية الثانية فهى من القرى المنتجة للموالح ويعمل خريجوها فى الحضر القريب ومنهم الاطباء والمهندسون. فبدأوا فى تنظيم الكفرين معا ونظموا جمع القمامة واوجدوا مكانا مشتركا للاحتفالات والمناسبات. ولكن فى النهاية لا يمكن ان تنمو القرية اقتصاديا الا فى إطار نظام لامركزى يوزع المشروعات على الاقاليم بالعدل والمساواة ويعترف بحق كل الاقاليم فى النمو العادل.