عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
أسطورة الإمام محمد عبده
12 فبراير 2021
محسن عبد العزيز;


مثل معظم أطفال القرى ذهب محمد عبده «1849 ــ 1905» إلى كتاب القرية، وخلال عامين فقط حفظ القرآن، فأرسله والده ليدرس فى المسجد الأحمدى بطنطا، لكن الطفل الذى حفظ القرآن فى عامين وجد نفسه غير قادر على فهم أى شىء مما يقوله المدرسون فى الأزهر، يقول فى مذكراته قضيت سنة ونصف السنة لا أفهم شيئا لرداءة طريقة التعليم، فالمدرسون كانوا يفاجئوننا باصطلاحات نحوية أو فقهية لا نفهمها، فأدركنى اليأس من النجاح وهربت من الدروس واختفيت عند أخوالى ثلاثة أشهر، ثم عثر على أخى وأخذنى إلى المسجد الأحمدى مرة أخرى وأراد إكراهى على العلم، فأبيت وقلت له إننى لن أنجح ولم يبق إلا أن أعود للعمل بالزراعة فى البلد.



..........................



وسوف يصبح الهروب أو الكر والفر هو الأسطورة التى تحكم مجرى حياة الامام محمد عبده فسوف يقبل على التعليم ثم يفر منه، ويقبل على اللعب ويفر منه، ويذهب إلى الأزهر ويفر منه إلى جمال الدين الأفغانى، وأحيانا يجبر على الفرار عندما يتعرض للنفى مرة إلى قريته ومرة إلى خارج مصر.



بعد جدال طويل أقنع محمد عبده شقيقه بأنه لن يكون له مكان فى الأزهر، وجمع ملابسه، وعاد إلى قريته «محلة نصر» ليعمل بالزراعة. وبعد مدة تزوج وهو لا يدرى أنه بهروبه من الأزهر يعيش فى قلب أسطورته وبل يصارعها طويلا، فأبوه يصمم على تعليمه، وهو يرفض رفضا شديدا، فيقرر الأب أن يجبره على الذهاب إلى الأزهر.



يحضر الأب أحد الأقرباء وكان قوى البنيان ومعه فرس ليأخذ الشاب محمد عبده ولو بالقوة إلى محطة ايتاى البارود ليستقل القطار إلى طنطا.



وراوغ محمد عبده صاحبه كثيرا، كرا وفرا حتى يفلت من الذهاب للمدرسة، كان اليوم شديد الحرارة والريح عاصفة ملتهبة فقال لصاحبه: لا أستطيع السير فى هذا اليوم، ولابد أن استريح فى أى قرية حتى تقل الحرارة. وعندما رفض صاحبه بعد مشادة، جرى محمد عبده بفرسه هاربا من صاحبه إلى قرية أخوال أبيه وهناك فرح به أنداده فقد كان معروفا بالفروسية واللعب بالسلاح. ولما أدركه صاحبه وألح عليه بالسفر قال له محمد عبده يائسا: سوف أسافر غدا.. عد إلى أبى وقل له إننى سافرت.



وظل محمد عبده عند أخوال أبيه خمسة عشر يوما فارا من أسطورته اليها، وهناك؛ جاء من يشير إلى الطريق، إلى العلم والأسطورة التى ستكون.



يقول الإمام محمد عبده: جاءنى الشيخ درويش أحد أخوال أبى صبيحة الليلة التى بتها وبيده كتاب يحتوى على رسائل صوفية، وسألنى أن أقرأ له منها شيئا لضعف بصره فرفضت طلبه بشدة ولعنت القراءة ومن يشتغل بها، ونفرت منه أشد النفور. ولما وضع الكتاب بين يدى رميته إلى بعيد لكن الشيخ الذى سوف يصبح صانعا للأسطورة دون أن يدرى تبسم كما يذكر الإمام وتجلى فى ألطف مظاهر الحلم، ولم يزل بى حتى أخذت الكتاب وقرأت منه بضعة أسطر، فاندفع يفسر المعانى بعبارة واضحة تغلب إعراضى وتسبق إلى نفسى.



لم يكن الأمر سهلا ولا يسيرا كان الإمام طبقا لاسطورته يقبل على العلم، ثم يفر منه إلى اللعب، فما كاد الإمام ينسجم مع الشيخ فى القراءة حتى جاء أصحابه يدعونه إلى ركوب الخيل واللعب بالسلاح والسباحة فى النهر. فرمى الكتاب وذهب مع اصحابه.



لكن الشيخ الذى يصنع الأسطورة على مهل يذهب إلى محمد عبده بعد العصر حاملا كتابه، كتاب المستقبل للإمام العظيم، ويلح عليه فى قراءة شىء منه.



يقول محمد عبده فقرأته ثم تركته إلى اللعب مرة أخرى. وفعل الشيخ فى اليوم التالى كما فعل فى اليوم الأول. وفى اليوم الثالث بقيت أقرأ له فيه، وهو يشرح لى المعانى نحو ثلاث ساعات لم أمل فيها، وعندما قال إنه ذاهب إلى المزرعة، طلبت منه أن يبقى الكتاب معى.



أخد محمد عبده كتابه بيمينه وراح يقرأ فيه، وكلما وجد عبارة لا يفهمها وضع تحتها خطا ليسأل الشيخ، حتى جاء وقت الظهر وجاء أصحابه يطلبونه للعب فرفض، فقد سرقه الكتاب من أصحابه وراحت الأسطورة تستيقظ، ولم يأت اليوم الخامس إلا وأصبح الإمام يكره اللعب أشد الكره، ويكره حتى أصحابه الذين يدعونه إليه. «لم أعد أحتمل أن أرى واحدا منهم، بل أفر من لقائهم جميعا كما يفر السليم من الأجرب».



تجلت أسطورة الإمام «الكر والفر» واضحة مع الشيخ، فهو يقبل على العلم مرة، ويفر إلى اللعب مرة أخرى، وهكذا ستكون حياته دائماً، كرا إلى الحق والعدل والخير والجمال، وفرا من الظلم والجهل والتشدد، كرا إلى الإصلاح وهروبا من الجمود والقهر.



الكر والفر فى الحرب غالبا هو أسلوب الأقل قوة فى مواجهة القوى بهدف إنهاكه وتشتيت قواته بعيدا عن الهدف المطلوب، فهى ليست حربا هجومية ولا هروباً أيضا، إنها إنذار عقلى بأن الحرب لن تمر سهلة أو يسيرة، وهى تشبه تماماً الموقف الإصلاحى للإمام بين الثورة ضد الظالم والخضوع له، فالإمام محمد عبده كان من أنصار الإصلاح فالظلم لا يمكن أن يمر بسهولة، إنه يؤمن بالإصلاح بالتدريج، لا يؤمن بالثورة مثل أستاذه الأفغانى أو صديقه أحمد عرابى.



يؤمن بإنذار العقل للظالم بأن ظلمه لن يمر، ولابد من الإصلاح فى السياسة والحكم والفكر والدين حتى تنهض الأمة.



ويسأل الإمام شيخه صانع الأسطورة: ما هى طريقتكم؟



فيرد عليه: طريقتنا الإسلام؟



فيقول الإمام مندهشاً: أليس كل هؤلاء مسلمين؟



فيرد الشيخ: لو كانوا مسلمين ما رأيتهم يتنازعون على التافه ويحلفون بالله كاذبين.



وكانت هذه الكلمات النور الذى أضاء الطريق، والنار التى أحرقت من كان يعتقد أنهم مسلمون ناجون.



وقد وصف الإمام محمد عبده هذا الشيخ واسمه درويش خضر بأنه مفتاح سعادته، فقد رد عليه ما غاب من أسطورته وكشفها للأيام.



وراحت الأشياء تكتمل مثل حبات العقد فقد أخبره صديقه أن والدته ذهبت إلى طنطا لتراه، فاستيقظ مبكرا ليكون هناك قبل أن ينكشف أمره. وانتظم فى الدراسة والغريب أنه أصبح يفهم ما يسمع ويشرح للطلاب ما يفهم. وانفتح أمامه الطريق والتحق بالأزهر فى القاهرة.



وفى نهاية كل سنة دراسية كان يذهب إلى قريته فيجد الشيخ درويش صانع الأسطورة سبقه إلى هناك، يدرس عليه القرآن، ويسأله عن المنطق والحساب والهندسة فيرد عليه الإمام: بأن هذه الأشياء غير معروفة فى الأزهر. فيقول له: طالب العلم لا يعجز عن تحصيله فى أى مكان.



وراح الإمام يتلمس هذه العلوم فى أى مكان إلى أن جاء إلى مصر السيد جمال الدين الأفغانى عام 1871 فهرب إليه الإمام طبقا لأسطورته يتلقى عنده العلوم الرياضية والفلسفية والكلامية. واتهمه مشايخ الأزهر بأن هذه العلوم تؤدى إلى زعزعة العقيدة. ولكنه لم يهتم بمثل هذه الخرافات وتوثقت علاقته بالأفغانى «كنت ألازم الأفغانى ملازمة ظله، وأحضر دروسه وناديه وسامره، وكانت كلها مجالس علم وحكمة وأدب ودين وسياسة».



يعتبر الأفغانى هو عقل الأسطورة الثائر، فإذا كان لأب زرع البذرة والشيخ درويش رعى الشجرة، فإن الأفغانى تولى الثمرة حتى نضجت.



وانفتح أمام الأسطورة طريق العقل وأصبح أكثر رسوخاً فى العلم مدركاً رسالته فى تحرير الفكر والعقيدة من الخرافات سالكا طريق الإصلاح الاجتماعى والسياسى.



ورغم هجومه الشديد على الأزهر ورجاله استطاع الإمام أن يحصل على شهادة العالمية ويصبح مدرساً للتاريخ فى مدرسة العلوم العليا عام 1878، ودرس للطلاب مقدمة إبن خلدون، وعلم الاجتماع العمرانى.



عندما تولى الخديو توفيق الحكم بعد إجبار والده الخديو إسماعيل على الاستقالة كان ميالاً إلى الإصلاح قريباً من الأفغانى ومحمد عبده، بل وكان يحضر دروس الأفغانى، ولكن عندما قال له مندوبا إنجلترا وفرنسا إن تدخل نواب البرلمان فى أزمة الميزانية سوف يعوق الحل ويهدد العرش مثلما حدث مع والده، ابتعد توفيق عن طريق الإصلاح، وأقال وزارة شريف باشا، وقبض على الأفغانى عام 1879 وعزل الإمام محمد عبده عن التدريس وحدد اقامته بقرية «محلة نصر»، وعندما تولى رياض باشا الوزارة استصدر من الخديو أمراً بالعفو عنه، واستدعاه من قريته وعينه رئيساً لتحرير جريدة الوقائع.



ولاحت نذر الثورة العرابية ولما كان محمد عبده من دعاة الإصلاح لا الثورة طبقاً لأسطورته، فإنه وقف فى مؤتمر نظمه العرابيون وأعلن موقفه صراحة محذرا من الثورة وأن من يشعلونها يسيرون إلى حيث لا يدرون ولا يعلمون ما يعملون.



ورغم موقفه ذلك فإنه عندما احتدمت أحداث الثورة وجد نفسه فى أتونها، فلم يكن وهو المصلح العظيم أن يتخلى عن حلم الثورة الذى يتوق إليه المصريون رغم إيمانه بأنها ليست طريقاً للإصلاح.



بعد هزيمة عرابى تم سجن محمد عبده ونفيه لمدة 3 سنوات طالت إلى ست. حتى تدخلت الأميرة نازلى فاضل لدى اللورد كرومر للعفو عنه. فعاد إلى مصر عام 1888 بشرط ألا يعمل بالسياسة. كما رفض الخديو أن يعود للتدريس فيكون له تلاميذ يؤرقونه بآرائهم، وعينه قاضيا فى محكمة بنها.



ظل الإمام الأسطورة فى كر وفر، شد وجذب بين السياسية والفكر والفلسفة والتاريخ.. وهدفه من وراء كل ذلك الإصلاح بالكلمة والفكر والرأى حتى عين مفتياً للديار المصرية عام 1899 لتتجلى أسطورته فى أبهى صورها، فيحمل الإمام على عاتقه مهمة التجديد الدينى والفكرى، لتأتى آراؤه معبرة عن الإسلام الحضارى، فاتحاً الباب للمستقبل والتقدم، مؤمنا بقوة العقل وقدرته.



يقول: إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما عليه العقل.



ويرفض الخلط بين الدين والسياسة قائلاً: إن من الضلال القول بتوحيد الإسلام بين السلطتين الدينية والسياسية، وهذه فكرة خطأ ودخيلة على الإسلام.



والاجتهاد ينبع من حالة العصر ويعبر عنه وليس هناك اجتهاد يلزم المسلم فى كل العصور.



وأفتى الإمام الرائع مبكراً بجواز التصوير، واقامة التماثيل، وأجاز فائدة البنوك، والتأمين على الحياة، وعلى الممتلكات، تلك الفتاوى وغيرها التى فتحت الباب لإيقاظ الأمة ووضعها على طريق التقدم والحضارة.



ولولا إصلاحات الإمام الفكرية وما نادى به خلال كتاباته التى بلغت خمسة مجلدات من إعمال العقل وتجديد الفكر ومحاربة الجمود لظلت هذه الأمة غارقة فى ظلمات العصور الوسطى العثمانية والمملوكية.



وعلى نهج أفكار الإمام محمد عبده جاء تلاميذه، سعد زغلول ليقود ثورة 1919، وقاسم أمين ليقود ثورة تحرير المرأة، ومصطفى وعلى عبدالرازق ليقودا تحرير الفكر.



ولا يتوقف سيل المبدعين العقاد وطه وحسين وسلامة موسى وتوفيق الحكيم ويحيى حقى ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وأم كلثوم.



فتراثنا الإبداعى مدين إلى اجتهاد وأفكار هذا الإمام الأسطورة الذى رحل عن 56 عاما فقط، وبقيت أعماله خالدة فى الفكر كأحد المجددين العظام فى تاريخ الإسلام.



وقد رثاه أحمد شوقى:



أنت أمير القول والحفظ والنهى



إذا لم ينل تلك الثلاث أمير



يعجبنى منك التقى حيث لا تقى



وجدَّك حين الهازلون كثير.