رغم أن الزيارة التى قام بها وفد حركة «طالبان» الأفغانية إلى إيران فى 26 يناير الفائت، بدعوة من وزارة الخارجية الإيرانية، ليست الأولى من نوعها، فإنها اكتسبت أهمية وزخماً خاصاً لاعتبارات عديدة، يتمثل أهمها فى أنها تأتى بعد نحو أسبوع من بداية عهد إدارة الرئيس الأمريكى جو بايدن، التى وجهت إشارات عديدة بأنها سوف تمنح أولوية خاصة للملفين الإيرانى والأفغاني، ضمن عملية المراجعة التى تجريها فى الوقت الحالى لمعظم الملفات الإقليمية، إن لم يكن مجملها. وفى هذا السياق، وبالتوازى مع تأكيد استعدادها للانخراط، بشروط، فى الاتفاق النووى مع إيران ومجموعة «5+1» من جديد، فإنها أشارت أيضاً إلى إمكانية إعادة النظر فى اتفاق السلام الذى أبرمته إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب مع حركة «طالبان» فى فبراير الماضي.
رسائل مزدوجة
من هنا، فإن هذه الزيارة كانت مناسبة لتوجيه رسائل مزدوجة من طهران و»طالبان» إلى واشنطن. فالأولى ما زالت حريصة على تأكيد تمسكها بموقفها فى الاتفاق النووي، القائم على أن عودة واشنطن للاتفاق هى مسألة تخصها فقط ولا تحتاج إلى إجراء مفاوضات جديدة، فضلاً عن أن تلك العودة لن تدفع طهران إلى تقديم تنازلات تتعلق بإدراج ملفات جديدة فيه أو ضم أطراف جديدة له. وانطلاقاً من ذلك، فإن إيران تشير تحديداً، وحسب ما جاء على لسان كبار مسئوليها، إلى أن الاتفاق النووى يضم حصراً الدول التى توصلت إليه ويركز فقط على الجوانب الفنية المتعلقة بالبرنامج النووى ولا يمتد إلى ملفات أخرى على غرار الدور الإقليمى وبرنامج الصواريخ الباليستية باستثناء القيود المفروضة على الصواريخ المصممة لحمل أسلحة نووية والتى تنفى إيران أنها تمتلكها من الأساس.
وهنا، فإن إيران لا يبدو أنها تستبعد فشل المقاربة الأمريكية للعودة إلى الاتفاق النووي، وبالتالى استمرار التصعيد الحالى على مستوياته المختلفة، بما فيها المستوى الإقليمي، على نحو يدفعها حالياً إلى تبنى ما يمكن تسميته سياسة «جمع النقاط» القائمة فى الأساس على تعزيز نفوذها فى الملفات الإقليمية التى تحظى باهتمام خاص من جانب واشنطن لاسيما الملفين الأفغانى والعراقي.
ولذا، كان لافتاً فى الفترة الأخيرة ارتفاع مستوى التصعيد داخل العراق ضد المصالح الأمريكية، مع إشارة تقارير عديدة فى الوقت نفسه إلى قيام إيران بنقل صواريخ باليستية إلى بعض الميليشيات الموالية لها داخل العراق. وتوازى ذلك مع تصريحات أمين المجلس الأعلى للأمن القومى على شمخانى خلال لقائه وفد «طالبان»، والتى اتسمت بطابع تحريضى واضح، حيث أبدى ثقته فى «عزم قادة طالبان على مواصلة القتال ضد القوات الأمريكية».
بدورها، فإن «طالبان» تسعى عبر تلك الزيارة إلى تأمين ظهير إقليمى لها فى مواجهة الضغوط التى يتوقع أن تعود الإدارة الأمريكية إلى ممارستها فى حالة ما إذا اتجهت بالفعل إلى إعادة النظر فى الاتفاق المبرم فى فبراير الماضي، بناءً على تقييمات عدة منها مدى انخراط الحركة فى جهود لمكافحة التنظيمات الإرهابية على الأراضى الأفغانية فى إشارة إلى تنظيم «داعش» تحديداً. وربما تحاول عبر ذلك توجيه رسالة إلى واشنطن بأن أى اتجاه مغاير للتفاهمات الأخيرة قد يدفعها إلى توسيع نطاق تعاونها مع إيران، على نحو يمكن أن يعزز موقع الأخيرة وبالتالى يقلص من قدرة الإدارة على ممارسة ضغوط عليها لتقديم تنازلات فى إطار مقاربتها الخاصة بضم الدور الإقليمى للاتفاق النووي.
مواجهة «داعش»
لن تنسى إيران بسهولة أزمة عام 1998 التى تسببت فيها «طالبان» عندما كانت مسيطرة على الحكم فى أفغانستان، منذ منتصف التسعينيات، حيث اتُهِمَت بقتل مجموعة من الدبلوماسيين الإيرانيين فى مدينة مزار شريف، وكاد يؤدى ذلك إلى نشوب مواجهة عسكرية واسعة بين الطرفين قبل أن تتراجع إيران فى اللحظات الأخيرة عنها. ومع ذلك، فإن طهران تثبت دائماً أنها تستطيع الانخراط فى تفاهمات مع خصومها فى حالة ما إذا اقتضت مصالحها ذلك، على نحو ما حدث مع الولايات المتحدة الأمريكية من قبل فى أكثر من مناسبة وقد يحدث من جديد فى مرحلة لاحقة.
ومن هنا، فإن أحد أسباب حرصها على الوصول إلى تفاهمات مع «طالبان» حتى عندما خرجت من السلطة وتعرضت لضغوط داخلية ودولية كبيرة، يكمن فى ضمان عدم استهداف مصالحها سواء من جانبها أو من قبل التنظيمات الإرهابية الأخرى الموجودة فى أفغانستان، على غرار تنظيم «داعش». وقد كان المسئولون الإيرانيون حريصين فى الآونة الأخيرة على الإشارة إلى أن أحد أسباب فتح قنوات تواصل مع «طالبان» يكمن فى تأمين المحافظات المحاذية لأفغانستان، فى ظل عدم قدرة الحكومة الأفغانية على السيطرة على مجمل الحدود المشتركة بين البلدين.
السؤال الأصعب
كما لا يمكن إغفال أن إيران ربما تسعى من الآن إلى تحييد موقف «طالبان» استعداداً للاستحقاق الأصعب الذى يتمثل فى عودة بعض عناصر الميليشيات الطائفية التابعة لها من مناطق الصراعات إلى دولها الأصلية. وهنا، فإن أفغانستان ستكون فى المقدمة فى ظل الدور البارز الذى يقوم به فيلق «فاطميون» فى الصراع السوري، والذى قامت إيران بتكوينه وتدريبه من عناصر أفغانية. ولا تستبعد إيران فى هذا الصدد أن تكون «طالبان»، إلى جانب الحكومة الأفغانية، إحدى الأطراف التى لن تكتفى برفض ذلك بل ستسعى إلى عرقلته، على نحو قد يدفع طهران إلى محاولة تعزيز نفوذها داخل الحركة، ربما عبر تكوين جناح موالٍ لها، من أجل الاستعداد مسبقاً لهذا السيناريو الذى لا يمكن استبعاده فى مرحلة ما بعد انتهاء تلك الصراعات.
فى النهاية، يمكن القول إن إيران تتبع بصفة مستمرة سياسة «لا عدو دائم ولا صديق دائم، فقط توجد مصالح دائمة». ورغم أن معظم دول العالم تتبنى المقاربة نفسها، فإنها تبدو جلية فى حالة إيران، التى تتحين الفرص للحوار مع خصومها حتى فى أحلك الظروف.