جوهر وجود الحزب السياسي أن تكون له قاعدة جماهيرية؛ يعبر عن أحلامها وطموحاتها، ويقدم برنامجا يمثل رؤيتها المستقبلية للنظام السياسي في دولتها. فالحزب هو المواطنون الأعضاء فيه، الذين يعطونه وزنه السياسي، ويحددون دوره المستقبلي. واذا حاولنا تطبيق هذا على الأحزاب السياسية في مصر فسنجد أنها في كثير منها ظاهرة ورقية مصطنعة، لا تعكس حقيقة اجتماعية سياسية على أرض الواقع، فكثير من هذه الأحزاب لا يكاد يوجد له مقر على الإطلاق, لا داخل العاصمة ولا خارجها، فوجودها مجرد وجود ورقي غير متحقق في الواقع، ولعل هذا من أكثر النكات السياسية طرافة، فقد لا يتخيل باحث أن هناك حزبا ليس له مجرد مكتب يمارس من خلاله وظيفته، أو يحقق من خلاله مجرد وجوده المادي، وإنما يمارس نشاطه الافتراضي من خلال مكتب المؤسس الذي يمارس فيه عمله الخاص، كما أن غالب الأحزاب لا يوجد لها تمثيل خارج القاهرة في صورة مكتب أو فرع، ويقتصر نشاطها على الحضور التليفزيوني، ولا يوجد لها نشاط فعلي في المجتمع، ولا يكاد يعرف عنها الشعب المصري شيئا، لذلك تسعى معظم هذه الأحزاب إلى الائتلاف في الانتخابات لأنه لا يستطيع الكثير منها تحقيق مجرد التمثيل في مجلس النواب.
الحقيقة المرة أنه ماعدا عددا قليلا من الأحزاب، لا يستطيع أكثر من مائة حزب مجرد التمثيل ولو بعضو واحد في مجلس النواب، وذلك لأنه لا وجود لهذه الأحزاب خارج إطار الطبقة السياسية، ومجموعة الباحثين المهتمين بالنظام السياسي المصري، فهذه الأحزاب لا يتجاوز وجودها الترخيص القانوني الذي حصلت عليه عند التأسيس، ولم تقم بشيء بعد ذلك، ولا تفعل شيئا إلا انتهاز أي فرصة للحضور الإعلامي، والوجود في المناسبات السياسية التي تحقق مجرد الظهور لرئيس الحزب، حتى صار منصب رئيس حزب يساوي صفة الناشط السياسي، أو المحلل السياسي، أو الخبير في شئون كذا وكذا، فقط صفة لشخص لكي تعطيه شرعية الحديث التليفزيوني.
ومن ناحية أخرى فإن المطلع على دلالات الألفاظ في الثقافة المصرية يلاحظ أن أسماء الكثير من هذه الأحزاب لا تعبر عن جدية في العمل السياسي، أو عن إدراك لمفهوم الحزب وموقعه في النظم السياسية، بل إن أسماء هذه الأحزاب لا تعدو أن تكون عناوين لمحلات أزياء، أو بوتيكات، أو محلات بقالة. وخلاصة القول، فإن تحليل الظاهرة الحزبية في مصر تحليلا عميقا يتجاوز الظواهر والأطر الشكلية ينتهي بنا إلى أنها ظاهرة غير جادة، وغير فعالة، ومن الصعب إدراجها ضمن الأحزاب السياسية بالمعنى العلمي للمفهوم، بل إنه في كثير من الأحيان هي ظاهرة كاريكاتورية عبثية, تعكس بحق الحالة التي وصلت اليها الممارسة السياسية في مصر خلال السبعين سنة الماضية من الترهل، والانتهازية، وانعدام الفعالية، والضعف الشديد؛ بل الفشل في أي تحقيق نهضة حقيقية في الممارسة السياسية تقترب مما هو موجود في عالم اليوم، أو مما كان في مصر في النصف الأول من القرن العشرين، حيث صارت الغاية القصوى للعمل السياسي هي تحقيق المصالح الشخصية للناشطين سياسيا والحزبيين، لان كل شيء قد صار توظيفا للعيش ولا مكان للقيم أو المثل السياسية.
وبالنظر الى البنية الداخلية لمنظومة الأحزاب السياسية في مصر نجد أنه من المستحيل على أي دارس أن يجد تمايزا أو اختلافا واضحا بين الأحزاب المصرية إذا ما قام بتحليل برامجها وأهدافها وشعاراتها، فغالبيتها تتفق على مجموعة واحدة من القواسم المشتركة ، والاختلاف يكون في تفاصيل جزئية، أو سياسات فرعية لا تسمح للباحث المدقق بأن يوجد مبررا لهذا التعدد الحزبي، فبرامج الأحزاب المصرية تثير الكثير من الدهشة، حيث نجد أن الأحزاب اليسارية القريبة من الفكر الماركسي مثل حزب التجمع، تلتقي مع الأحزاب الليبرالية مثل حزب الوفد، وكذلك مع أحزاب الوسط والأحزاب ذات التوجهات الإسلامية في أسس واحدة أهمها: احترام الدين الإسلامي كمصدر للقيم والأحكام، والدعوة إلى العدالة الاجتماعية، والتعددية، والديمقراطية، والإصلاح الاقتصادي وحقوق الإنسان والعمال… إلخ. فكثير من الأحزاب في مصر هي كيانات شخصية أو شللية تتمحور حول أشخاص، وليس برامج أو توجهات سياسية كبري، وقد حصر الدكتور يسري العزباوي في دراسة له بعنوان: مستقبل الأحزاب السياسية الجديدة, جميع الأحزاب المصرية بعد يناير ٢٠١١ في تيارات برامجية كبري هي: الاحزاب ذات المرجعية الدينية إسلامية أو مسيحية، وهي بالعشرات، والأحزاب ذات التوجهات الليبرالية وهي أيضا تتجاوز العشرة أحزاب، والأحزاب ذات المرجعية اليسارية هي ما دون الخمسة أحزاب، والأحزاب المختلطة التي تجمع ما بين الليبرالية واليسارية، وأخيرا الأحزاب العمالية.
وهذا التصنيف لما يزيد على مائة حزب يقول لنا إن مصر يوجد فيها حقيقة من خمسة إلى سبعة أحزاب، أما ذلك التعدد الكبير فلا يعكس تنوعا برامجيا، وإنما يعكس حالة من تمركز الظاهرة الحزبية حول الأشخاص، وأن هذه الأحزاب ليست سوى مشاريع شخصية، أو دكاكين سياسية تسعى لتحقيق مكاسب لأشخاص أو شلل معينة. (وللحديث بقية)