عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
يحيى حقى يدعوك إلى الكونسير
29 يناير 2021
د . فوزى الشامى ;


يحيى حقى المولود سنة 1905، فى درب الميضة «الميضأة» خلف المقام الزينبى فى حى السيدة زينب بالقاهرة، هو رائد القصة القصيرة وأحد رموز المدرسة الحديثة فى الأدب التى نشأت فى العشرينيات من القرن الماضى، هو صاحب سيل كبير من المقالات وما يقرب من أربعين كتاباً ما بين القصة والرواية والنقد والفكر الأدبى والتاريخى، منها قنديل أم هاشم والبوسطجى ومجموعات قصصية هى درر أدبية رائدة، فضلاً عن أنه من عشاق الفنون وخاصة الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية.



....................



فإذا كنت من الراغبين فى التعرف إلى الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية، وتحاول فهمها والتقرب منها، وحتى إن لم تكن كذلك فإننى أدعوك الى فعل هذا، وتأكد أنك لن تخسر شيئا، بل على النقيض تماما، فسوف تكتشف عالماً عجيباً غريباً رائعاً يغذى عقلك أولاً ثم وجدانك، ستشعر بأنه أمر ضرورى فى حياتك لا غنى عنه.



وللتعرف على أجواء هذا النوع من الفن كبداية لفتح أبوابه والتعرف عليه وكشف أسراره، عليك أن تقرأ كتيبا صغيرا بعنوان «تعالى معى إلى الكونسير» للكاتب الأديب المتفرد يحيى حقى، الذى نشره عام 1969، أيام كانت الثقافة الجادة تملأ حياتنا واهتماماتنا. فاغتنم فرصة البقاء فترات طويلة داخل المنزل هذه الأيام جراء فيروس كورونا، وادخل الى هذا العالم على الأقل من خلال الميديا. وتذكر يحيى حقى بمناسبة مرور 115 عاما على ميلاده.



كلمة «كونسير» فى الفرنسية، أو«كونشرتو» فى الإيطالية، وبالإنجليزية والألمانية «كونسرت» وتنطق بشىء من التقارب مع اختلاف أحرف الكتابة، لها معنيان، الأول هو اسم لأحد القوالب أو أشكال التأليف الموسيقى الشهيرة، والثانى بمعنى الحفل الموسيقى. وهذا النطق يستخدمه المهتمون والمحترفون والدارسون فى مصر والدول العربية لحفلات هذا النوع من الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية.



أما الكلاسيكية فهو مصطلح لاتينى يعنى الصفوة المثقفة، حيث كانت الفنون والآداب فى هذا العصر الذى بدأ قبيل منتصف القرن الثامن عشر واكتمل فى النصف الثانى منه مقصوره على الطبقة المتميزة من سادة المجتمعات من الملوك والأمراء فى أوروبا، ولكن بمضى الوقت أصبح يقصد بها الأعمال الفنية والأدبية والمسرحية الجادة الرفيعة على مر التاريخ والتى تتفق مع القواعد الفنية والأكاديمية المتعارف عليها، ولا تتأثر قيمتها بمرور الزمن.



هذا الكتيب البسيط هو تحفة رائعة صغيرة لا تتعدى الستين ورقة، وتمهيد عبقرى مبسط وساحر يدفع بقارئه الذى لا علاقة له بموسيقى الكونسير إلى اقتحام هذا العالم الغريب و العجيب، و سرعان ما يقع فى شباكه، و كلما زاد فى اقتحامه وتجول فيه يشعر بأن هذا العالم الغريب ضرورة من ضرورات الحياة لا غنى عنها. جاء هذا الكتاب فى أسلوب رشيق متبسطاً فى الكلام خالطاً فيه المؤلف الجد بشىءٍ من الدعابة، والقصة بالمبالغة مسترجعاً ذكرياته التى بدأت فى مدينة روما بإيطاليا قبل الحرب العالمية الثانية حينما بدأ يتردد هناك على حفلات الكونسير للمرة الأول فى حياته، أثناء فترة عمله هناك بالقنصلية المصرية.



لم يحدثنا يحيى حقى عن كيفية تذوق الموسيقى الكلاسيكية بطريق مباشر، وإنما أخذ يصف لنا الأجواء المحيطة بهذا العالم الغريب و العجيب ويصور لنا الطقوس التى تقام من أجله فى الكونسير وهى التى بلا شك تجذبك جذباً شيقاً وسريعاً لتتعرف على تقاليد هذا الفن التى تثير اهتمامك بجدية للسعى فى محاولة فهمه وإدراكه وتذوقه.



فتقديم هذا الفن فى قاعات الاستماع له تقاليد جادة وصارمة ونظام يلتزم به كل من الجمهور المستمع والفنانين من العازفين أو المغنين، وكذا أعضاء الأوركسترا، من حيث الدقة المتناهية فى موعد بدء الكونسير بالدقيقة وحضور المشاهدين قبل الموعد، ودخول عازفى الأوركسترا إلى خشبة المسرح الذى يتراوح عددهم ما بين ثمانين ومائة وعشرين عازفاً حسب احتياجات المؤلفات الموسيقية التى ستقدم فى الحفل. وهم يجلسون فى نظام دقيق محدد ومعروف فى كل البلدان، والتزام الجمهور فى صمت تام والتصفيق بعد انتهاء كل عمل يقدمه الأوركسترا. وأمور أخرى عديدة.



فى البداية يصف يحيى حقى لنا ما يحدث داخل قاعة الكونسير قبيل البداية ودخول أعضاء الأوركسترا، وكيف تدور أحاديث الحاضرين من الجمهور من أصحاب هذا المجتمع، مجتمع طواويس الثقافة والذوق والكياسة «حسب وصف الكاتب لهم»، فيقول إنه تدور بينهم همهمة تحكى حكاية واحدة، فهم يترقبون متعة لذيذة نادرة هى نفحات من السماء، فالنفوس فى نشوة خلت عنها همومها، الحياة مضيئة و العيون لامعة و القلوب متطهرة و كأنما ارتد الجميع إلى مهد الطفولة، ثم تبلغ الهمهمة ذروتها لغلبة إحساسهم كلهم بأنهم عما قليل سيصمتون صمت القبور. لعلهم يشعرون بسعادة وراحة فى هذا الهبوط المفاجئ من شاهقٍ، و يبتلع كل واحد منهم ريقه فى حلق جاف.



ثم يصف حقى تقاطر أعضاء الأوركسترا من باب جانبى فردا وزوجا و ثلاثة و عنقودا بلا ترتيب، كسلسول الماء من صنبور شرقان، كل منهم يحمل آلته الموسيقية بكل حرص إلا الآلات الكبيرة بثقيلة الحمل فإنها حملت إلى المسرح من قبل بداية الكونسير.



ويستمر حقى فى وصف جو هذا المجتمع، حيث يقول: ثم يأخذ كل عازف فى تجربة آلته، يالها من لحظة ممتعة لا يعرفها إلا عشاق الأوركسترا، و شبه كل هذه الأنغام الصادرة من آلاتهم فى غير انتظام بانهيال سيل نقود ذهبية و فضية و نحاسية من كيس على الأرض تحدث رنيناً مركباً رائعاً. وهكذا يمضى بك يحيى حقى فى وصف الأجواء والحالات وصفا دقيقا عبقريا يجعلك متشوقا للتعرف على هذا العالم الجميل فهو يأخذك إليه دون أن تشعر.