عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
8 ـ نشيد محمد
27 يناير 2021
بقلم ـ أحمد عبدالمعطى حجازى


أعود لأناقش مرة أخرى ما قاله ويقوله بعض المثقفين الغربيين عن الجبرية التى يزعمون أنها عقيدة إسلامية أو قاعدة من قواعد الاسلام.



وكنت قد ناقشت هذه المسألة حين تحدثت عما جاء فى كتاب الدكتور محمد حسين هيكل «حياة محمد» وهو يتحدث عن المستشرقين والحضارة الإسلامية ومنهم الكاتب الأمريكى واشنجتن إيرفنج الذى ألف كتابا فى سيرة النبى سماه «محمد وخلفاؤه» ووضع له خاتمة يقول فيها إن الاسلام يقوم على ست قواعد أولاها الايمان بالله وآخرها الايمان بالجبرية التى فسر بها إيرفنج شجاعة المسلمين الأوائل التى فتحوا بها العالم، كما فسر بها أيضا تخلفهم فى العصور الحديثة. وقد شرحت من قبل هذه الفكرة نقلا عما جاء فى كتاب الدكتور هيكل. لكن العودة لمناقشة الموضوع فى هذه المقالة تستدعى أن أذكر بما قلته فيها.



قلت إن الجبرية فرقة إسلامية هامشية تؤمن بأن كل ما يحدث للإنسان جبر واضطرار. وأن الله هو الفاعل فى كل شىء، وأن الحديث عما يفعله الانسان مجاز ينسب إليه لصلته به كما ينسب الفعل للنبات والحيوان والجماد فيقال تفتح الزهر، وطلع الفجر، ودارت الرحى.وإذا كان المسلمون الأوائل قد آمنوا بهذه العقيدة فقد خلصهم إيمانهم بها من الخوف من الموت وهم يخوضون المعارك التى خاضوها. لأن الموت إذا كان مقدرا عليهم فسوف يلقونه لا محالة، وعليهم إذن أن يواجهوه بشجاعة فإما انتصروا وأصبحوا سادة الدنيا وإما استشهدوا ودخلوا الجنة.



لكن الجبرية التى كانت معهم وهم يفتحون العالم قلبت لهم ظهر المجن بعد أن احتلوا مكانهم فيه. لأن إيمانهم بأن كل شىء مقدر وأن مصيرهم ليس فى أيديهم جعلهم يستسلمون لهذه العقيدة ويتلقون ما ينزل بهم دون مقاومة. والنتيجة هى ما صاروا إليه من عجز وتخلف.



هكذا قرر إيرفنج أن تخلف المسلمين فى هذه العصور الحديثة عقيدة دينية راسخة، وأنهم لايستطيعون أن يكونوا أحرارا كما استطاع الغربيون أن يكونوا، وأن الديمقراطية والعقلانية وحقوق الانسان والعلم والثروة والسيادة من نصيب الغربيين وحدهم، فلهم أن يمتلكوا العالم كله دون أن يقاومهم أو يزاحمهم أحد. فإذا علمنا أن إيرفنج كتب هذا الكلام فى النصف الأول من القرن التاسع عشر أى فى السنوات التى كان فيها الأتراك المسلمون ينسحبون من شرق أوروبا، وكان فيها الفرنسيون يحتلون الجزائر ويستعدون لاحتلال تونس والمغرب، وكان الانجليز يحتلون الهند وعدن ويستعدون لاحتلال مصر والسودان، وكان الهولنديون يحتلون إندونيسيا ـ إذا تصورنا كيف كان العالم فى تلك الفترة التى كتب فيها إيرفنج ما كتبه عن الاسلام علمنا أنه كان يبشر بالاستعمار الغربى ويبرره.



ويبدو كما لو أنها كانت خطة مرسومة ومتفقا عليها. لأنى وجدت أن ما قاله إيرفنج قال مثله مثقفون غربيون آخرون، منهم المؤرخ والسياسى الفرنسى جبرائيل هانوتو، ومنهم المستشرق الألمانى فرانز روزنتال. ولنبدأ بها نوتو.



هانوتو ولد فى أواسط القرن التاسع عشر، فى تلك السنوات التى تحولت فيها فرنسا من جمهورية ديمقراطية إلى امبراطورية انفرد فيها نابليون الثالث بالسلطة، واندفع فى سلسلة من المغامرات العسكرية انتهت بسقوطه. وكان هانوتو لايزال يواصل دراسته التى استطاع بعدها أن يلتحق بالسلك الدبلوماسى ويتدرج فيه حتى يصبح وهو فى نحو الأربعين من عمره وزيرا لخارجية فرنسا. ثم يترك منصبه ليبدأ الكتابة فى التاريخ. وفى تلك المرحلة كتب مقالتين عن الإسلام والمسلمين عبر فيهما عن عنصرية بغيضة لاتزال تفعل فعلها فى بعض النفوس المريضة حتى الآن وتفتح المجال للتعصب المتبادل والعنف والارهاب. وهذا مايجب أن نعرفه ونكشفه ونتصدى له.



نعم. فى المقالتين اللتين كتبهما هانوتو عن الاسلام والمسلمين عنصرية بغيضة وتعصب ذميم جره للمقارنة بين ما تمتاز به المدنية الآرية المسيحية وما تفتقر إليه المدنية السامية الاسلامية ـ والسامية هنا نسبة لسام بن نوح ـ يقول إن هذه المدنية السامية لم تمكن المسلمين من الوصول إلى ما وصل إليه الأوروبيون الذين أصبح عليهم أن يحملوا أعلامهم ويتوغلوا فى بلاد المسلمين الإفريقية والآسيوية يحملون لها «روح المدنية»! وتلك هى القضية التى اندفع هانوتو يكتب فيها مقالتيه.



لقد أراد أن يبرر استعمار الفرنسيين للجزائر وتونس والسنغال وغيرها من البلاد الإسلامية التى ظلت تقاوم المستعمرين وتدافع عن حريتها وليس فى يدها سلاح إلا الإسلام الذى لم يستطع هانوتو أن يخفى كراهيته له وخوفه منه، متهما إياه بإثارة التعصب ضد الفرنسيين الذين ذهبوا إلى هذه البلاد «لتنظيمها وترقية شئونها».



وهانوتو فى حديثه هذا الذى يفصح فيه عن تعصبه وعنصريته يتعرض للجبرية فيقول ما معناه إن تنزيه المسلمين لله ونفيهم عنه كل صفة تطلق على المخلوقات جعلهم بعيدين عنه لايجدون وسيلة تقربهم منه. وهكذا «تجعلهم ديانتهم كمن يهوى فى الفضاء بحسب ناموس لايتحول ولا يتبدل ولا حيلة فيه سوى متابعة الصلوات والدعوات والاستغاثة بالله الأحد الذى هو مستودع الآمال». ثم ينهى هذه الفقرة بقوله «ولفظة الاسلام معناها الاستسلام المطلق لإرادة الله»!.



وهذا فهم ناقص ومغرض لعقيدة التنزيه وللاسلام بشكل عام. لأن التنزيه ينكر التشبيه والتمثيل ويفسح المجال مع ذلك للاقتراب الحميم من الله الموجود فى كل الوجود، المستجيب لمن يتجه إليه بصدق ويدعوه بإخلاص. «وإذا سألك عبادى عنى فإنى قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان» سورة البقرة ـ الآية 186. «ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله» سورة البقرة ـ الآية 115 والله أقرب إلينا من حبل الوريد. ونحن نراه بقلوبنا إلى الحد الذى لا نرى فى الوجود سواه. وسوف أختم بكلمة للمفكر الإسلامى محمد أركون يصحح فيها للفرنسيين فهمهم لمعنى كلمة «إسلام».



يقول محمد أركون، وهو فرنسى من أصل جزائرى: «جرت العادة أن تترجم كلمة «إسلام» إلى الفرنسية بكلمة خضوع، خضوع لله، أو حتى بكلمة استسلام وهى كلمة فى غير موضعها. المؤمن ليس مستسلما لله، ان فيه اندفاع الحب نحو الله، حركة اعتناق لما يطرحه عليه الله، لأن الله يرفع الانسان إليه بالوحى. هذا السمو بالانسان يخلق لدى الانسان شعوراً بالامتنان إزاء خالق أغدق النعم على المخلوق. هناك إذن علاقة طاعة ملأى بالحب والاعتراف بالجميل، تقوم بين الخالق والمخلوق».