كنتُ أتناقش مع بعض الزملاء ف الجامعة وشرق بنا الحديث وغرب لكننا دون قصدٍ ركَّزنا على الضعف المُتزايد فى المستويات العلمية لبعض الأساتذة. وتبرعتُ أنا بالقول بأن جانبًا من هذا الضعف يرجع إلى التغيير الذى حدث فى لجان الترقيات. فقد كانت هذه اللجان تقوم منذ سنوات على قواعد وأسس موضوعية خالصة منها: عدد سنوات التدريس، والخبرات الجامعية، والبحوث المؤلَّفة، والجوائز المحلية والأجنبية... إلخ. وكان أغلب الأساتذة الجامعيين عندما تمضى عليهم خمس سنوات من العمل فى درجة «مُدرِّس» يفرحون بانضمامهم إلى لجان الترقيات، فى مستواها الأول الخاص بالأساتذة المُساعدين، أما الانتقال من لجان ترقيات الأساتذة المُساعدين إلى الأساتذة، فكان هناك نوعٌ من الاحتفاء بالأستاذ الذى يصل فى أبحاثه وفى خبرته إلى ما يؤهله بجدارة لأن يكون عضوًا فى لجنة ترقيات الأساتذة. وهذا ما مررتُ به مع أبناء جيلى الذين جاوزوا السبعين عامًا من أعمارهم.
ولكن فجأة تغيَّر النظام وأصبح هناك تمييز بين الأساتذة العاملين والأساتذة المُحالين إلى المعاش أو الذين تجاوزوا الستين عامًا. ومن هنا جاءت المشكلة الأولي، فمع مرور السنوات خلت لجان الترقيات تدريجيًّا من كبار الأساتذة المشهود لهم بالكفاءة، والمعروفين على مستوى الوطن العربى كله وفى خارجه. وبقى جيلٌ وراء جيل من الأساتذة الجُدد الذين لا يتمتع أغلبهم بالكفاءة نفسها ولا بالسمعة نفسها. وفى عهد وزير أسبق جاءت قواعد الانضمام إلى لجنة الترقيات مُطالبة الأساتذة الذين يريدون الانضمام إليها بأن يتقدموا عارضين طلباتهم على لجان مُخصَّصة لذلك. وكان الأمر مُثيرًا للتساؤل: مَن الذى سوف يحكم على الأساتذة الذين اكتسبوا الخبرة والكفاءة وحصلوا من الدولة ومن خارجها على ما يؤكد جَداراتهم العلمية؟! وكانت الإجابة أن الأمر سيعرض بالطبع على لجان لا يخلو تشكيلها من المُجاملة، وهو بالفعل ما حدث فى حالات لم أعُد أذكرها، وما أذكره أننى لم أجد واحدًا من أقرانى أو مَنْ فى حُكمهم يتقدم طالبًا الانضمام إلى تلك اللجان.
ومرت السنوات وبقيت القاعدة الحاكمة على ما هى عليه، وبقى الأساتذة الكبار «فى العلم والمقام» على ترفُّعهم عن الانضمام إلى لجان الترقيات. وشيئًا فشيئًا غلب أساتذة الجامعات الإقليمية على عضوية تلك اللجان، واختفى منها تدريجيًّا الأساتذة الكبار فى القيمة، وكانت النتيجة أن شاع نوع من التساهل فى ترقيات الأساتذة الذين لا يمكن أن يكونوا فى وزن أحمد زويل فى المجالات العلمية، أو فى وزن إدوارد سعيد فى المجالات الأدبية، أو فى وزن زكى نجيب محمود، وأحمد أبو زيد، وعبد الرحمن بدوى فى المجالات الفكرية. ولم يعد من المُستغرب أن نجد أستاذًا مُساعدًا أو حتى أستاذًا يُشرف على رسائل جامعية للماچستير أو الدكتوراة دون أن يكون له أدنى دراية بموضوعاتها أو حتى بالمواقع التى تقع فيها هذه الموضوعات داخل العلاقات البينية للمعارف الإنسانية أو الفكرية أو العلمية.
وأعتقد أن الأمر قد وصل إلى درجةٍ تُنذر بالخطر، فلجان الترقيات الجامعية لم تعد تصلح بوضعها الحالى لكى تكون موضوعية تمامًا، ولا مُنزَّهة عن التحيز بكل أشكاله. ولا غرابة فى أننا مع مرور الوقت أصبحنا نسمع عن السرقات العلمية التى لا تُكتشف إلا بعد الترقية أو التى تكتشفها بعض اللجان الجادة على سبيل الاستثناء، أو نسمع عن مجاملات كثيرة حدثت على نحوٍ يُظهر التحيزات المعهدية أو الإقليمية. أنا شخصيًّا أُفاجأ أحيانًا حينما أسمع أن مجلس الكلية يُعطى حق الإشراف على طلاب فى تخصصات وموضوعات لا علاقة لها بالأساتذة المُشرفين، كما لا أزال أسمع شكاوى الطلاب من أساتذة شبان، وتتصل الشكوى أو الشكاوى بضعف المستوى العلمى والفكرى لهذا الأستاذ الشاب أو ذاك. والجميع يعرف هذه الحقيقة ويراها، ولكنه يُسهم فيها بِصَمته وحرصه على المُجاملة التى لا تحرج أو تسبب غضبًا أو سوء فهم. ويبدو الأمر كما لو كانت عملية الترقيات قد أصبحت جانبًا من العملية التعليمية التى أصابها الخلل من كل جوانبها نتيجة عوامل كثيرة منها عدم تناسب أجهزة الجامعات الحكومية مع عدد الطلاب الذى يفوق مرات ومرات طاقاتها الاستيعابية، ومنها شيوع المجاملات فى أحوال كثيرة، ومنها العصبية المعهدية التى تأخذ أشكالًا من المُبالغة الضارة فى غير حالة. وحسبى أن أضرب مثالًا واحدًا هو مثال المرحوم الأستاذ الدكتور حسين نصار، أستاذ علم اللغة، ذلك الرجل الفاضل والعالِم الجليل الذى توفى عن عمر يناهز التسعين عامًا. وقد ظل طوال سنوات عديدة بعيدًا عن مجمع اللغة العربية مع أنه صاحب أول وأهم كتاب عن المُعجم العربي، عنوانه: المعجم العربي: نشأته وتطوره, وهو موضوع فى صميم علم اللغة واختصاص مجامع اللغة العربية. وللأسف ظل هذا الرجل مُستبعَــدًا من دخول مجمع اللغة العربية عمدًا ولتحيزات شخصية ومعهدية، والمجمع الذى سيطر عليه خريجو دار العلوم وأساتذتها رفض أن يقبل هذا الرجل بين أعضائه الذين يعد أكثرهم من تلامذته.
والحق أن الخلل فى مجمع اللغة العربية لا يعدو أن يكون مَظهرًا آخر للخلل الذى لا يزال موجودًا فى لجان الترقيات، وإذا كانت الدولة قد تدخلت إيجابًا لإصلاح الأمر فى مجمع اللغة العربية، فإننى أنتظر بفارغ الصبر أن تتدخل الدولة من جديدٍ لإعادة تكوين لجان الترقيات, لكى تكون تلك اللجان أكثر حسمًا فى اختيار الأحق بالدرجة الجامعية العُليا «أستاذ مساعد، أستاذ»، وأن تحذف ذلك الشرط الذى لا معنى له فى أن من يريد أن يدخل إلى تلك اللجان لا بد أن يتقدم لها. فالمفروض أن يحدث العكس وأن يُختار أعضاء تلك اللجان على أُسسٍ علميةٍ صارمةٍ وقواعد جامعيةٍ أصيلة وصلبة.