بعد مرور 50 عاما .. الأوبــرالى العــالمى د. جابر البلتاجى يكشف كواليس المؤامرة: كنت شاهدا على حريق الأوبرا
مبنى المطافى يبعد عدة أمتار ولم تصل السيارات إلا بعد مرور ساعتين
صوت شجى مؤثر.. تنطلق ذبذباته محلقة مع ملائكة السماء.. تطوف فى أرجاء البلدان تاركة بصمات باسم المطرب العالمى مغنى الباريتون الأول فى مصر دكتور جابر البلتاجى الذى كرس حياته للغناء وتعليم أسسه ومعاييره العالمية بطريقة لم يتطرق لها غيره فى أكاديمية الفنون
لينهل من علمه طلاب قسم الغناء..
أكثر من 50 عاما عمر
د.جابر البلتاجى الفنى داخل أروقة الأوبرات العالمية، لكن الأوبرا المصرية لها تأثير خاص فى حياته الشخصية والفنية فقد اعتبرها بيته الأول ليس الثاني، وكلما ذكر أحدهم الأوبرا التصق بها اسم د البلتاجى باعتباره الباريتون الأول المصرى الذى لم يفارق الأوبرا حتى فى لحظات حريقها العصيبة عام 1971.. يكشف لنا دكتور جابر البلتاجى حقيقة حريق الأوبرا وما وراء الكواليس الذى لم يسرده الإعلام وقتها.. وكان البلتجى شاهد عيان.
بداية كيف كان وقع خبر الحريق عليك ؟
بكل أسى يضرب د جابر جبينه بكفه قائلا : ما أقسى ان أتذكر مأساة حياتى فهى الأكثر ألما من فقد عزيز غال، خاصة أن الأوبرا لم تحرق بماس كهربائى كما زعموا وقتها، فقد خضعت لتجديد اسلاك الكهرباء فى الشهر الماضى على حريقها، فكيف يعقل أن يحدث ماس بعد شهر من الاصلاحات!؟
هل تلقى باللوم على أحدهم.. إلام تشير تلميحاتك؟
ليست تلميحات يا عزيزتي.. سمعت ذلك بأذناى حيث قال محافظ القاهرة وقتها : أريدها هى والارض قطعة واحدة لكى نبنى «جراجاً» متعدد الطوابق .. وقد تم بالفعل بناء جراج.
إذا كنت تقصد أن الحريق كان متعمدا فما إثبااتك؟
بالطبع متعمد.. إثباتاتى كلها ظهرت بعد مرور عامين على الحريق.
أولا.. ظهرت فى الاسواق بعض اكسسوارات وملابس الأوبرا .
ثانيا.. كنت فى إيطاليا انا وحسن كامى وقرأنا فى الصحف أن نسخة أوبرا عايدة التى نسخها فيردى بأمر من الخديو اسماعيل تباع فى المزاد.
من أنقذ هذه النسخ.. وكيف تم انقاذها ولم يكن مدير الاوبرا( صالح عبدون ) موجوداً من قبل الحريق بأيام؟
من أنقذ النجفة الضخمة التى لم نتمكن من نقلها لتنظيفها.. متى تفككت وكيف خرجت، حيث لم نجد لها أى أثر فى الحريق ؟
كل الكتب الوثائقية للأوبرا التى تنتشر الآن فى الاسواق منذ أكثر من عشر سنوات من أين حصلوا على أصولها اذا كنا لم نتمكن من انقاذ أى وثيقة او كتاب من مكتبة الأوبرا؟
والشيء الوحيد الذى حاول أحدهم انقاذه هو البيانو الابيض الفريد من نوعه والذى لم يتواجد شبيهه فى العالم.. ألقاه أحد رجال الأمن من النافذة لكى ينقذه من الحريق.
هل اتصل أحدهم بالمطافئ قبل أن يتصلوا بك ؟
يضرب بيده على الطاولة بكل قوته ويقول : ياعزيزتى المطافئ تبعد خطوتين عن الأوبرا ومع ذلك لم تأت من نفسها، حتى لما اتصلت بهم أجابوا بكل هدوء بعبارة باردة لا تليق بحجم الحدث : حاجة بسيطة وبنطفيها.
كنت قد اتصلت بهم قبل وصولى الى الاوبرا فكنت أشم رائحة الدخان واستشعرت ان الأمر مريب والحريق هائل.
ولم تأت المطافئ إلا بعد مرور ساعتين على اندلاع الحريق.بالله عليك علام يدل ذلك ؟
أين كنت وقت اندلاع الحريق ؟ ومن أبلغك بالخبر ؟
كنت نائما فى بيتى بالزمالك حيث وقع الحريق الساعه الخامسة فجرا، واتصل بى صديق من موظفى الادارة يسكن فى ميدان الأوبرا، يعلم مدى حبى للأوبرا الذى لم ينافسنى فيه أحد، ولما أبلغنى انهرت تماما ورحت أبحث عن مفاتيح سيارتى بفوضوية حتى إنى لم أجدها وربما كانت أمامى فى نفس مكانها الذى أضعها به كل يوم، فهرعت الى الشارع لم أجد «تاكسي» إلا فى آخر الشارع، صرخت فى وجه السائق ليسرع وكنت أحرك قدماى كأنى أقود بدلا منه متوترا ومنفعلا، تتعالى ضربات قلبى كلما شممت الدخان.
بمن اتصلت أولا لتخبره ؟
اتصلت أولا بالمطافئ لأن صديقى الذى اخبرنى أشار لى بأن لا أحد هناك سوى هو ورجال الأمن.. لا وجود لمسئولين ولا مطافئ لهذا اتصلت بالمطافئ أولا.. ثم بالاستاذ أحمد سعد الدين صديقى الذى كان آخر من غادر الأوبرا معى ليلة الحريق فى الساعه الثانية عشرة بعد منتصف الليل، فقد كنا نقوم بتدريب فريق الأوبرا اليونانية، حيث كان مسئولا عن العلاقات الثقافية الخارجية وقتها.. وسألته: هل أخبرك أحد بأن الأوبرا تحترق ؟ أجابنى باندهاش : لا.. ثم أسرع بالقدوم.
من وجدت هناك فور وصولك ؟
لا أحد سوى رجال الأمن وبعض موظفى الإدارة، فقد كان المدير مسافرا قبل الحريق بأيام، ولم تأت المطافئ الا بعد وصولي، ثم محافظ القاهرة ورجاله.
ماذا فعلت بعد الوصول إلى الأوبرا ؟
حاولت الدخول متخيلا أنى أستطيع إطفاء الحريق او إنقاذ أى شيء من متعلقاتها، لكن أصدقائى المطرب الأوبرالى جريجوار و المخرج عبد الله العيوطى و مهندس الكهرباء فائق حنا أمسكوا بى وأنا منهار تماما بعدما أدركت أن الحريق خرج عن السيطرة وألتهم كل شيء، جلست أبكى على الأرض، اتمنى أن يكون كل هذا كابوسا، لأنى لا أستطيع التعايش معه على أنه حقيقه.
متى تأقلمت مع الأمر بعد ذلك ؟
لم أتأقلم مطلقا ولن أنسى ذكرياتى على مسرح الأوبرا القديمة مع كبار المطربين،، حيث كان لها الفضل فى اكتشاف صوتى وسفرى للغناء حول العالم.
لماذا لم تحتفظ بنفس مكانتك بعد بناء الأوبرا الجديدة ؟
هذا السؤال يجيبك عليه وزير الثقافة السابق فاروق حسنى الذى كان يستبعدنى ويستبدلنى بمطربين من الخارج، يدفع لهم تكاليف اقامة وسفر ومكافآت، بينما أنا أقف للمشاهدة فى الكواليس، لولا أن الظروف كانت تعانده فى بعض الأحيان ويضطر لتواجدي، ولكن بدون أى مصاريف أو مكافآت حتى إن دكتور ثروت عكاشة كتب لى بخط يده عام 2008متعجبا من استبعادى قائلا :(عندما استمعت إلى صوتك المجلجل يا جابر فى حفل الأوبرا القديمة المأسوف عليها، توقعت لك مستقبلاً باهراً فى الغناء الأوبرالي، وأعتبر أن استبعادك عن الغناء فى دار الأوبرا كارثة فنية).
ويكفينى انى حصلت على شهادات من كبار الفنانين، فقد قال لى ذات مرة الفنان محمد عبد الوهاب: أنا سعيد بأن مغنى أوبرا يغنى الأغانى العربية بصوت رائع، والكاتب الصحفى مصطفى أمين نصحنى بالنزول للغناء بالشارع قائلا ( والله يا جابر لو غنيت فى الشارع لكان أفضل لك )
أما دكتور يحيى الجمل رحمة الله عليه فقد كان كلما وجدنى يقول لى »غنى ياجابر أغنية بتاع العسلية».
ما قصة هذه الأغنية ؟ وما علاقتها بك كمغنى أوبرا؟
ليست أغنية، هى عبارة ارتجالية ألفها بائع العسلية وكان يغنيها بصوت عذب، كنت أقلده وانا سعيد بجملته، فكان يقول ( حلاوة ياعسلية.. بمليم الوقية) فقد كنت ميالا للأصوات العربية أسمعها وأغنى أغانيها كما كنت أول من تطرق الى دراسة أذان الصلاة بصفته الأقرب الى الغناء الأوبرالى فخصصت رسالتى للدكتوراه فى هذا الشأن بعنوان ( تقريب الغناء الأوبرالى من صوت الأذان ) وحاولت استكمالها مع الشيخ ابو العينين شعيشع ولكن لم يسعفنى الوقت حيث توفاه الله، كما كنت كثير التعلق بالروحانيات فارتبطت بالعديد من مقرئى القرآن وعلى رأسهم الطبلاوى الذى كنت استشهد بأنفاسه الطويلة أثناء تدريسى الغناء للطلاب فى ايطاليا.
ماذا حدث لمسيرتك الفنية بعد الحريق ؟
أجاب دكتور البلتاجى وهناك ومضة أسى فى عينه كأنه نال كل ما يحلم به مغنى أوبرا، لكنه لم يحصل على أهم شيء.. ألا وهو تكريم أوبرا بلده مصر حيث يقول : طفت العديد من البلدان أغنى فى مسارحها بعد حريق مملكتى دار الأوبرا المصرية عام 1971، وانطلقت حاملا مصريتى فى قلبى ليدوّى صوتى فى سماوات العديد من دول أوروبا،حتى نلت تكريما من كل بلد زرته، وحصلت على ميدالية فيردى كأفضل صوت، كما حصلت على وسام فارس من إيطاليا وميدالية البولشوى من روسيا من الباريتون الإيطالى تيتو جوبى عام 75، وكنت عضو أوبرا فينيسيا، وأوبرا لافنيتشا عام 1972، وحصلت على وسام الجدارة من كندا عام 1976ووسام فارس من رئيس إيطاليا عام 2006.
ماذا عن البلدان العربية ألم يكن لها نصيب معك؟
كانت لى تجربة مثيرة وقوية مع سلطنة عمان، حيث أسست فريق إنشاد للحرس السلطانى العماني، تقديرا منى لجلالة السلطان قابوس وحبه للفن، فقد كان عازفا للعود، ومؤلف مقطوعات موسيقية، أرسل فى طلبى لتدريب 48 شابا كانت أصواتهم لا تصلح، ولكنى وبشهادة من القنصل الروسى صنعت معجزة فنية بأصواتهم، فى فترة خمسة شهور فقط من التدريبات المكثفة، مما جعل السلطان يأمر بتأسيس أوركسترا، وبذلك رفعت علم مصر فى بلاد عربية وأجنبية.
كيف تم استبعادك من الغناء فى الأوبرا ؟
وضعنى وزير الثقافة فى القائمة السوداء فى الحفلات المصرية طوال عهده فيما يقرب من أربعة وعشرين عاما، وقد عاصرت أكثر من أربعة رؤساء للأوبرا، لم ينصفنى ويقدرنى سوى مصطفى ناجى الذى وضع تمثالى فى غرفته الخاصة بالأوبرا حتى جاء سمير فرج وألقاه خارجا.. هذا التمثال الذى صنعه الفنان عبد العزيز صعب تقديرا لشأنه وحوصر التمثال بعد صبه بالخارج بلا سبب، رفضوا رجوعه مصر ولم يتم الإفراج عنه إلا عندما سافر الفنان صعب لتسلمه بنفسه .
ظللت أغنى بلا راتب أو مستحقات مادية حتى حررت العديد من المحاضر ضد رؤساء الأوبرا ووزير الثقافة وقتها لرد مستحقاتى وصرف راتبي، ومازالت صور المحاضر محفوظة فى درج مكتبي، أنوى المطالبة بها لرد اعتبارى بعد طول هذه الفترة.
هل ترى أنك وحدك فى القائمة السوداء عن عمد؟
يقول البلتاجى : ليست الأزمة تخصنى وحدى وانما هى أزمة كل الموهوبين، فمصر تمتلئ بأعداء النجاح الذين يتفننون فى اضطهاد اصحاب المواهب ويجبرونهم على ترك بلدانهم والالتحاق بالخارج.
لم تجد من يحتضنها كالعصور الماضية كما كان فى عهد د. ثروت عكاشة رائد الثقافة والفن الذى كان يزور أكاديمية الفنون قبل أن يذهب الى مكتبه فى الصباح، ويقرر بنفسه الحفلات ويحضر البروفات، حتى إن له واقعة فريدة من نوعها تسببت فى إعلاء شأن الأكاديمية الى الآن.. حيث كانت الاكاديمية تستورد من الخارج ملابس وأحذية الباليه بتكلفة عالية، لذلك جلب ثلاثة مصممين للملابس والاحذية وخصص لهم مكانا فى مدرسة الباليه ليعلموا بعض العمال المصريين التفصيل، ومنذ ذلك الحين ومدرسة الباليه بفضله لديها اكتفاء ذاتي.
لماذا لم تدل بهذه الشهادات من قبل ؟
أدليت بها كثيرا فى برامج تليفزيونية ومع بعض الصحف من زمن، ولكن لا أحد يهتم والبعض يعتبرها مجرد تلميحات.
واستطرد البتاجى قائلا : حتى وإن كان كلامى مجرد ادعاءات أو تلميحات على أشخاص بعينها أو فساد .. لماذا لم يتم التحقيق فيما أقوله ؟ أليس الأمر يستحق الاعتناء بهذا التراث المهيب؟ الذى أمر بتأسيسه الخديو اسماعيل عام 1869 ليطلق عليها الأوبرا الخديوية، ثم أوكل للفنان الايطالى فيردى بكتابة أوبرا عايدة بخط يده، تلك النسخة التى اختفت وقت حريق الأوبرا مع العديد من مقتنياتها، أليس ذلك جديرا بالشك ؟ وطرح دكتور البلتاجى سؤالا استنكاريا : ألا يعنى شيئا أنى سمعت محافظ القاهرة وقتها بأذنى يقول : (عايزها على الأرض عشان نأسس الجراج ) وقد كان ! وتم تأسيس جراج متعدد الطوابق، ونقل مبنى الأوبرا الجديد الى أرض الجزيرة تأسست عام 1988 على الطراز الإسلامي، ومن هذا التاريخ وأنا أعانى من الاستنكار والاضطهاد بسبب اصرارى بأن الثقافة والفنون فى مصر تتعرض للتفريغ والهدم، ومازلت ومصرا حتى يستمع إلى صوتى مسئول يرد اعتبار الفن والثقافة فى مصر ولأبنائها وانا على رأسهم.