الإسلام دين وسطى، يرفض التفريط والاستسهال مثلما يرفض التطرف، ويكرس دائمًا الوسطية فى أمور الحياة، والوسط بالمعنى الربانى هو العدل، لقوله تعالى: «وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا». وحين التقيت قبل نحو ربع قرن رائد نظرية الوسطية العربية أستاذى الراحل د. عبد الحميد إبراهيم يرحمه الله، وتعرفت إلى نظريته، وجدت الوسطية الإسلامية تنتمى إلى تراث دينى مناقض لوسطية أرسطو، فالأخيرة تنبع من تراث إغريقى عقلى وثنى، صادر من عقل فيلسوف له منطقه الشكلى الخاص، ومن هنا كان اختلاف النظريتين، فالأولى تنبثق من فكر قرآنى ربانى، والثانية من عقل بشرى قد يصيب وقد يخطئ وقد يفرط أو يغالى.
وأسعدنى أن أقرأ قبل أيام كتاب وسطية الإسلام فى حياتنا الفكرية.. قضايا التجديد والثقافة والمعاصرة» للمفكر د. مصطفى عطية جمعة، والذى هدف من تأليفه الإجابة عن سؤال مفاده: كيف يمكن أن نقدم خطابًا دينيًا يناقش ويعالج مستجدات الواقع، بكل ما فيه من عوار وجراح ونشوز وتقلبات؟ واستطاع الكاتب باقتدار عبر بابين وخمسة فصول تقديم رؤية، توضح أهمية النهج الوسطى والفهم الصحيح للإسلام، فى تجديد قضايا الفكر الإسلامى واتصالها بأمور الواقع المعاصر، فى ضوء الأفكار المطالبة بتجديد الخطاب الإسلامى، ومعالجته مستجدات فكرية واجتماعية وثقافية وسلوكية تظهر كل يوم. وكأنى بالمؤلف أراد بصفحات كتابه الرد على ما يطرحه بعضهم من أفكار شاذة، تطعن فى الثوابت وتهاجم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتشكك فى الأحاديث الشريفة، وتنادى بتغيير الخطاب الدينى ككل، دون أن تدرك أن المقصود بالتغيير هو الخطاب الدعوى الموجه للناس، أما الخطاب الدينى فتغييره يحتاج إلى مجمع من العلماء المتخصصين فى مجالات علوم القرآن الكريم، من ناسخ ومنسوخ وأسباب تنزيل وتفسير وغيرها، وعلوم الحديث الشريف من تصحيح وتضعيف وجرح وتعديل وغيره، وعلوم الفقه والشريعة، وغير ذلك من العلوم التى يستحيل أن ينهض بها فرد بمفرده. ولتحقيق هدفه، لجأ المؤلف إلى تبنى محورين رئيسيين تتفرع عنهما مسائل وإشكاليات، فالمحور الأول يتصل بقضيتى الوسطية والاعتدال، وانعكاسهما على الوعى الدينى وخطاب التجديد، ويناقش المحور الثانى قضايا الوسطية فى الثقافة الإسلامية، ورؤيتها للحضارة بعامة والحضارة المعاصرة بخاصة. ولعل القضية الأبرز ثقافيًا التى يعالجها الكتاب تتمثل فى موقف الإسلام من الحداثة وما بعدها من عولمة وغيرها، ذلك أن الحداثيين الغربيين ينظرون من عليائهم الزائف إلى الإسلام: ثقافته وحضارته، ويقرأونه وفق المذهبية الفكرية الغربية وليس وفقًا لمنابعه، وينبهر بدعاويهم ومصطلحاتهم البراقة بعض المغرر بهم، فيرددون ما يقولونه دون مناقشة أو تمحيص.