عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
جيهان السادات حارسة الأسطورة
25 ديسمبر 2020
محسن عبد العزيز;


كل ليلة قبل الذهاب إلى النوم، كانت أمى تدفعنا إلى الحديقة المظلمة بمفردنا، وأن نبحث عن طريقنا حولها ثلاث مرات فى الظلام، هذا ما تحكيه جيهان السادات فى مذكراتها «سيدة من مصر».



كان هدف الأم أن نتعلم ألا نخاف عندما نكون بمفردنا، أو أن نخاف من الظلام. والأم دون أن تدرى كانت تجهز طفلتها لأسطورتها الخاصة التى سوف تحكم حياتها، فطوال عمرها سوف تأخذ جيهان السادات قرارات صعبة وجريئة دون خوف من شيء، سواء كان ظلام الليل أو ظلام الأشخاص أصحاب العقول المغلقة.. فسوف تلتقى السادات وعمرها 15 عاما فقط، وتعجب به وتحبه، وتصمم على الارتباط به، رغم أنه مطلق ولديه ثلاثة أطفال، ومطرود من عمله، ويكبرها بـ 15 عاما، وعندما يقولون لها: مطلق وعنده 3 أطفال! ترد: ولو عنده 20 طفلا سوف أتزوجه؟! بل وتميل تقبل أقدام أمها حتى توافق فقط على مجرد الجلوس معه!



تلتقى أسطورة جيهان التى لاتخاف أسطورة السادات، وتصبح الحارسة له، فإذا كان السادات كثير التغيير والتقلب فى المواقف والآراء، تجاه الأشخاص،فإن جيهان سوف تحاول أن تكون البوصلة التى تضبط علاقته بالآخرين، فتدعو أحمد بهاء الدين أو هيكل أو أساتذة الجامعات المعارضين إلى طعام فى المنزل لتسوى خلافهم مع السادات، ولذلك فإن كل الذين اختلفوا مع السادات كانوا يكنون تقديرا خاصا للسيدة جيهان وعقلها.



أخذت جيهان من والدتها الهدوء الانجليزي، وتعلمت منها التسامح أيضا، وقبول المختلفين، ومهما كان الخلاف معها فإنك سوف تجد زاوية فى عقلها تقبل هذا الخلاف.



فوالدة جيهان كانت مسيحية، ووالدها مسلما، تزوج من أمها عندما كان يدرس الطب فى لندن.



تقول جيهان: وأنا طفلة سألت أمى وكانت تحتفظ بتمثال للمسيح فوق سريرها، وكنت أراها تصلي، وقد شبكت يديها بالطريقة المسيحية.. لماذا أنت مسيحية ونحن مسلمون؟.



فقالت لها: لايختار أحد دينه، فنحن جميعا كما نولد، الشيء المهم أن نتذكر أن هناك إلها واحداً لجميع الأديان، ولايهم كيف نعبده مادام الإيمان فى قلوبنا وكانت تصوم معنا بعض أيام رمضان لتشجعنا على الصيام.



بالحب الكبير عاشت جيهان تحتمل الفقر والحياة القاسية مع السادات وهو مطرود من الجيش.



وكحارسة للأسطورة كانت تمنحه الأمل فى أشد اللقطات قتامة. تقول: بعد أن ترك السادات العمل مع حسن عزت حدثت لنا ضائقة مالية شديدة، كنا مفلسين لانملك القدرة على دفع إيجار البيت الذى نسكن فيه فى الروضة وكان 12 جنيها!.. ورغم ذلك كان السادات يأخذنى فى نزهة مسائية، نسير على كوبرى عباس. وحين وصلنا إلى نهاية الكوبرى تقدم منى عراف، وأعطيته كفى ليقرأه، فقال لي: ستصبحين ملكة مصر. فغرقت فى الضحك، ملكة مصر، ونحن لانملك أجرة البيت الذى نعيش فيه!. ولأول مرة منذ أيام أرى أنور يبتسم. وفى اليوم التالى دق جرس التليفون، وكان المتحدث يوسف رشاد الطبيب الخاص للملك فاروق يخبرنا بعودة السادات إلى الجيش مرة أخري.



وفى معظم المواقف الصعبة سوف تكون بجانب السادات تحرسه بقلبها وعقلها، فهو حب عمرها، ومعها يشعر بالأمان دائما.



فى ليلة الثورة يأخذها إلى السينما، ورغم ما قيل عن ذكاء السادات، وخوفه من فشل الثورة، وافتعال معركة داخل السينما، كل ذلك حقيقى لكن لماذا نغفل أن السادات كان يستمد فى هذه اللحظة القوة والسكينة من جيهان وشخصيتها الآثرة.



بعد الثورة سوف يصبح بيت السادات وجيهان هو البيت الذى يستريح فيه عبدالناصر من توترات السياسة وصراعاتها، وكان عبدالناصر يحب طعام السيدة جيهان.



فى كل خطوة للسادات يمكن أن تجد أثرا لجيهان فهى ثاقبة العقل شجاعة، وسوف تجد عندها دائما تبريرا لكل مواقف السادات. وعندما سألتها عن خطأ أو عيب للسادات؟ قالت بعين المحب: كان يتعبنى فى الأكل، أكله كله مسلوق، وقليل. وكان هادئا لدرجة تنرفزنى. وكنت أقول له : من فينا اللى أمه انجليزية!



فى كل مكان سوف تجد جيهان حول السادات حارسة وزوجة، من قرية ميت أبو الكوم إلى أكبر عواصم العالم، فى القرية ترتدى ملابس الفلاحين وفى واشنطن ترتدى أحدث الصيحات العالمية.



وفى الأحداث الكبرى سوف تكون هناك تعضد مواقفه وأحيانا تلهمه الصبر.



فى أحداث مايو 1971، سوف تعيش أصعب لحظات حياتها قلقا وتوترا إلى درجة البكاء، فزوجها الرئيس ينام والمسدس تحت رأسه خوفا من القبض عليه بعد اشتعال الخلاف بينه وبين رجال عبد الناصر الأقوياء.. يومها لم تملك جيهان غير أن تقول له أغلق باب حجرة النوم بالمفتاح!



فى هذه الفترة العصيبة تحلم جيهان بنيران تحرق بيتهم فى الجيزة وتتوهج وتندفع إلى الخارج من جميع النوافذ، وحاولت أن تجرى لتنقذ الزوج والأولاد، لكنها لم تستطع. حاولت الصراخ ولكن صوتها لم يخرج. وعندما شعرت بالعجز تماما، رأت لون الدخان أبيض.



وعندها أدركت أن هناك أملا، فقالت للسادات : المؤامرة ضدك لن تنجح، فالدخان الأبيض يعنى أنك ستنتصر.



من الطبيعى أن لا يصدق السادات مثل هذه الأحلام لكنها بالتأكيد أعطته بعض الأمل، كما منحه قارئ الكف قبسا من الضوء والابتسام فى حياته السابقة.



كانت أحداث مايو بصراعاتها الشديدة من أقسى اللحظات التى مرت على جيهان السادات ولذلك بعد أن نجح السادات وقبض على كل معارضيه بعد استقالاتهم الجماعية، قامت جيهان بالصوم لمدة شهر، وأدت العمرة. وفاء لنذر لها إذا نجح السادات فى هذا الصراع.



كان على جيهان أن تواجه معارضة شديدة منذ بداية ظهورها مع السادات وحوله، وكان لابد أن تطالها الأقوال والشائعات، فهى مرة تعين الوزراء أو تقيلهم، ومرة تشارك هذا أو ذاك أعماله التجارية، ومرة تأخذ الهدايا الثمينة، ومرة يقال قوانين جيهان.. ولكن كل ذلك لم يمنعها من القيام بدورها والمشاركة بقوة فى لحظات الفرح والألم.



فى شهر أكتوبر من عام 1973 سوف تشعر بقرب الحرب وهى تجهز حقيبة السادات بثلاث بيجامات وثلاثة قمصان وثلاث بدل عسكرية، لأنه ذاهب إلى مقر القيادة. وأول مرة يطلب منها تجهيز حقيبته، فتسأله: هل تذهب ابنتنا جيهان إلى المدرسة غدا؟



يقول السادات : نعم مثلها مثل الآخرين، وفهمت جيهان أن الحرب قريبة جدا. ولكنها لم تكن تعرف على وجه الدقة متي، وسمعت قرار العبور من الراديو وهى فى منزلها مثل أى مصرى ومصرية، وتحركت إلى مستشفيات تلتقى الجرحى والأبطال، وتميل تقبل أيدى أحد الجنود فى مستشفى المعادى عندما سمعته يقول: أنا رفعت العلم على سيناء تقول له أنت بطل لابد أن نفخر بك، وتقبل يده.



كان من المواقف الصعبة التى مرت على السيدة جيهان أيضا قيام السادات بزيارة اسرائيل، تقول: هذه هذ الزيارة الوحيدة التى لم يطلب منى السفر معه، وأنا لم أفكر فى ذلك. كنت قلقة عليه أشد القلق، لم أكن أعلم إن كان سيعود مرة أخرى أم لا.



فى حوارنا الأخير معها قالت : بكيت فى أحداث مايو وعند زيارة السادات لإسرائيل ولحظة اغتياله.



يوم 6 أكتوبر كان اليوم الوحيد الذى لم يكن السادات يتصور أن يحدث له فيه مكروه لأنه كان يعتبر نفسه بين أولاده وجنوده يحتفلون بالنصر.



وكحارسة للأسطورة طلبت من السادات أن يرتدى البدلة الواقية من الرصاص. لكن قال لها إذا جاءت الرصاصة هنا وأشار إلى رقبته فماذا تفعل البدلة؟



وبعد ساعات كانت طلقات الإرهاب والغدر تتجه إلى صدر الرئيس ورقبته، والسيد جيهان فى مقصورتها لا تعرف ماذا تفعل، وحارسها يشدها إلى الأرض خوفا من الرصاص العشوائي.



فى مستشفى المعادى تدرك الفاجعة من العيون الحزينة والدموع فوق الخدود. وتظل جيهان متماسكة حتى بعد أن تدخل غرفة العمليات وتتأكد من موته. لكنها فور أن وصلت إلى سيارتها راحت تبكى وتولول على حبيب العمر والزوج الأسطورة.



وقد روى لى الدكتور سيد الجندى الذى قام بتشريح جثة السادات أن السيدة جيهان أصرت على حضور تشريح الرئيس حتى تتأكد أن الرصاصة القاتلة جاءت من الأمام وليس من الخلف!



وتأكدت تماما أن الرصاص كله جاء من الأمام، والغريب أنها طوال لحظات التشريح كانت متماسكة الأعصاب لدرجة أذهلت الجميع.



ولو كان الرئيس ارتدى البدلة الواقية لأمكن إنقاذه فقد أصيب بأربع رصاصات احداها فى القلب، وكانت هى القاتلة.. كما يقول الدكتور الجندى.



سوف تظل السيدة جيهان حارسة الأسطورة صلبة قوية وذكية، فتطلب أن يدفن السادات بجانب النصب التذكارى لأبطال أكتوبر فتصبح ذكرى انتصار الوطن هى ذكرى وفاته، ولا يستطيع أى أحد أن يتجاهل السادات وهو يحتفل بنصر أكتوبر، لأنه سوف يحس بنظرات السادات تطل عليه من قبره.



وتكمل جيهان السادات حراسة اسطورتها حتى بعد الممات، فتنشئ بجامعة ميرلاند الأمريكية «كرسى السادات»، وتدعو إليه زعماء العالم كارتر وكيسنجر ومانديلا وكوفى أنان وبيجين ليتحدثوا عن السادات ذلك الرجل الذى سيتوقف أمامه التاريخ طويلا دون أن يمل أو يشبع من حكاياته وحكايات أسطورته وحارستها التى لا تتكرر كثيرا.