عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
اختناق مروى نحو السماء
27 نوفمبر 2020
محمد رفيع


الأخبار تنشر عدد الوفيات بسبب كورونا، لكن لا أحد قال لنا عن المواليد التى سببتها تلك الجائحة، آلاف الوفيات تصعد أرواحهم للسماء يوميا وآلاف الأرواح الجديدة تأتى إلى الأرض لتسكن أجساد المواليد، ولذا حدث ما يشبه الاختناق المرورى على الجانبين، نعم اختناق مرورى فى الطريق إلى السماء ذهابا وإيابا،فالناس وجدوا وقتا كافيا للتناسل، وربما إحساس الخوف الغريزى دفعهم لنقل جيناتهم بسرعة لأجيال جديدة، عل تلك الأجيال تبقى على هذه الأرض أكثر مما بقينا نحن.



ربحت شركات الأدوية الملايين وكذلك صناع الكمامات، عوت الكلاب فى شوارع المدينة قبل الحظر الليلي، وكأنها صافرة إنذار فى وقت الحرب تنذر الناس كى يختبئوا فى بيوتهم. أو لتقول لنا إن المدينة فى الليل لنا.



لا أحد ربح من تلك الجائحة، مثل الدكتور آدم، كان مهندس اتصالات و يعمل منذ سنوات على تحليل بكاء المواليد الجدد، كان مقتنعا أن هناك شفرة ما يمكن فكها، طيلة خمس سنوات وهو يزور مستشفيات الولادة، ويسجل بكاء الوليد الجديد ثم يعود إلى المنزل يحلل الأصوات ويحولها لرسم بيانى ويبحث فى كتب الشفرات، ويملأ حوائط المكتب بصور الأطفال وبجانبها التحليل الصوتى لبكائها الأوليّ، بالطبع استطاع إيجاد معاملات مشتركة وذبذبات مختلفة، لكنه لم يستطع فى تلك السنوات الخمس الاستناد إلى نظرية حقيقية عن لغة مشتركة يستخدمها هؤلاء المواليد، فالإنسان هو الكائن الوحيد الذى يبكى بهذا الشكل حين يولد، أما باقى الحيوانات فلا وقت للبكاء لديهم، فالبرية لا تمنحهم وقتا كافيا لذلك.



كل الذين حول الدكتور آدم هجروه حتى زوجته وابنته التى تحبه كثيرا، لم يستطع أحد من أسرته تحمل هذا الجنون، كان مقتنعا أن المواليد يريدون أن يقولوا شيئا لنا؛ ربما عن العالم الآخر وربما يحملون رسائل من الله. لا يعرف بالضبط لكنه كرس حياته من أجل هذا الهدف، بينما الناس كانوا موقنين أنه ينتحر ببطء، يذهب حياته سدى وأنه حتما سيصل إلى لا شيء.



مع قدوم كوفيد 19 بحث الناس عن أى حلول علمية أو حتى ميتافيزيقية تقيهم هذا الخطر، وصار الجيران الذين نسوا وجوده؛ يتعجبون لأنه بعد كل هذه السنوات مازال يعمل بنفس الحماس ونفس الطاقة. أحيانا ما كان جار من جيرانه يمر عليه مع الالتزام بالتباعد الاجتماعى وارتداء الكمامة والإمساك بالكحول، صار الكحول فى هذه الأيام مثل المسدسات فى الحرب الكل يمسك به ويضع يده على الرشاش ويجهز نفسه للإطلاق فى أى وقت، يقترب الجار منه ويسلم عليه بود، ويسأل بجدية عما إذا كان توصل إلى شيء، يرد الدكتور آدم بسرد التطورات والتى حتى الآن لم تسفر عن لغة حقيقية أو حتى إشارات يمكن فكها، لكنه بالطبع حصل على بعض النتائج وأثبت أن هناك مقاطع صوتية لها نفس الذبذبات فى حالة إن كانت الأم تعيش حياة سعيدة، و من ناحية أخرى ذبذبات أخرى متشابهة فى حالة الأم التعيسة، لكنه بدأ مؤخرا يلاحظ أشياء أخرى وربما جائحة كورونا ساعدته على ذلك، فالأطفال الذين يولدون لأسر مات لها قريب مؤخرا يصدرون بكاء له ذبذبات مختلفة عن حالة تعاسة الأم، لم تكن هذه النتائج تشفى غليل الجيران لكنهم أصبحوا أكثر تقبلا لسماع تلك النتائج حتى لو بدت غير مفيدة، خصوصا أن النتائج تسارعت وتيرتها مع كثرة الموتى والمواليد.



فى إحدى الليالى قال الدكتور آدم لأحد الجيران انه لو يملك تليسكوبا يرى به الأرواح لشاهد هذا الازدحام الذى تمثله تلك الأرواح صعودا وهبوطا. الغريب أن الجار سمع ذلك بحماس شديد وفكر فيه مليا، وحين ذهب إلى بيته آخر الليل، حكى هذا التصور لأولاده وزوجته، اندهشت الزوجة وظنت أن زوجها بدأ يجن كما حدث للدكتور آدم. لكن الجار المسكين أخذ يفكر فى تلك الفكرة حتى على سرير النوم، أو قل سرير الأرق فهو لم يستطع أن ينام فى تلك الليلة ولا فى الليالى التالية، وحين أشرقت شمس قام من سريره وأخبر جارا له بهذا التصور، كان الجار الجديد يسقى حديقة منزله فى الصباح الباكر وبعد أن تبادلا التحية تشاركا هذا التصور معا، انبهر الجار الجديد بالفكرة وصار ينظر إلى السماء وكأنه فعلا يبحث عن ذلك الزحام، بينما ذهب جارنا الأول إلى مكتب الصحة ليحصل على إحصائية بالمواليد الجدد وعدد النساء الحوامل فقط فى فترة الحظر. وفعلا كانت النتائج عجيبة والمعدلات فى ازدياد،ذهب الجار بهذه النتائج إلى الدكتور آدم، وهو فى قمة سعادته وكأنه يحمل هدية له، وبينما هو يشرح له ما حدث فى مكتب الصحة طرق الباب، فتح الدكتور آدم الباب ليجد جاره الآخر يستأذنه فى الدخول وبعدما جلس الثلاثة على الكراسى الثلاثة الوحيدة الموجودة فى البيت وقدم لهم الدكتور آدم شاى وبعض الفطير، قال الجار الجديد



لقد تجرأت وفعلت شيئا من تلقاء نفسى لكنى أظن أن الأمر لن يغضبكما كثيرا



قال الجار الأول



ماذا فعلت؟ أرجو ألا تكون سببت أى متاعب للدكتور آدم فهو لديه من المتاعب ما يكفيه، والأكثر من ذلك هو متفرغ تماما لأبحاثه ولا وقت عنده لأى حماقات.



قال الجار الجديد



لقد ذهبت إلى مكتب الصحة، لكننى لم أطلب تلك الإحصاءات التى سبق وأن طلبتها، بل رشوت ممرضة هناك، لكى تبعث لنا يوميا عدد الولادات الجديدة



قال الدكتور آدم



لن يضر ذلك فى شيء



أكمل الجار الجديد كلامه وهو يتلعثم



لكنى فعلت شيئا آخر قد يبدو أحمق



لقد أخبرت جارنا الذى عن يمينى عن هذا التصور



قال الجار الأول فى ارتياح



لا عليك فهذا الرجل مشغول برسوماته ولا يريد أن يسمع شيئا، لا تضع وقتنا نريد أن نسمع من الدكتور آدم عن اكتشاف اليوم



قال الدكتور آدم بعد أن أتى ببعض الأوراق من على المكتب



لقد سبق وقلت لك بالأمس أن الطفل الذى يولد فى أسرة مات أحد أفرادها له ذبذبات صوتية مختلفة عن الطفل صاحب الأم التعيسة



هنا استفاض الجار الأول بالشرح للجار الجديد



وسبق ذلك اكتشاف أن الطفل ذا الأم التعيسة وصاحب الأم السعيدة لهما ذبذبات مختلفة



أومأ الجار الجديد برأسه مشيرا إلى أنه فهم الاختلاف، ثم حول الاثنان نظرهما نحو الدكتور آدم لاستقبال الاكتشاف الجديد



قال الدكتور آدم بفخر



ركزت أكثر فى ذبذبات الطفل الذى مات أحد أفراد أسرته وبدأت أراقب هل الذبذبات تختلف لو كان الميت رجلا أو امرأة فلم أجد أى اختلاف. قارنت هذه النتائج بنوع الطفل المولود فلم أحصل على أى نتائج ولكن هناك اختلافات ليس لها تفسير قائم على مسألة النوع، وبالبحث أكثر عن حياة الأشخاص الذين ماتوا وجدت المفاجأة،



جحظت عيون الجارين عند هذه الجملة



قال الدكتور آدم بثقة كان الأمر له علاقة بما إذا كان الميت رجلا طيبا يحسن إلى الناس والحيوانات أم انه كريه أنانى وحياته مليئة بالخطايا، وكان السؤال الأكبر هنا كيف للمولود أن يعرف سلوك قريبه الميت؟ راجعت النتائج أكثر من مرة لكى أتأكد وفى النهاية وصلت إلى نفس النتيجة.



ما الذى يريد هؤلاء الأطفال أن يقولوه لنا؟



تفرق الثلاثة بعد هذا السؤال، مشى الجاران كالمنومين مغناطيسيا إلى بيتهما والسؤال يتردد فى عقليهما، لكن الزوجتين كان لهما ما يشغلهما غير هذا السؤال، أحست كل واحدة منهما أن زوجها يسرق منها، وقد سبق وأن سألت إحداهن الأخرى عما إذا كانت زوجة الدكتور آدم عادت إلى البيت أم لا؟ وعندما انتهيتا إلى أن لا زوجة آدم ولا ابنته الشابة الجميلة عادتا إلى المنزل، سكن نوع من القلق داخلهما واستعر نوع آخر، وحكيا لبعضهما أن الرجلين لا يغمض لهما جفن فمرة يفكران فى طريق السماء المزدحمة ومرة يسألان ماذا يريد أن يقولوا لنا هؤلاء الأطفال؟ لا شيء بالطبع، لو كان المواليد يريدون أن يقولوا شيئا لقالوه للأمهات، وحتى لو كان هذا البكاء هو لغة مشفرة كما يدعون، فبالطبع كانت الأمهات ستفهم ذلك عبر آلاف السنين.



فى اليوم التالى اجتمع الثلاثة على الكراسى الثلاثة يستعرضون رسائل الممرضة عن مواليد اليوم ويقارنونها بعدد الوفيات، وبينما هم كذلك، سمعوا طرقا على الباب، ظن كل واحد من الجارين على حدى أنها زوجته، فالزوجتان نظرتا إليهما بارتياب هذا الصباح، ولذلك قاما فى وقت واحد نحو الباب، وحين فتح أحدهما وجد جارهم الرسام يمسك بثلاث لوحات متطابقة ويطلب الإذن بالدخول.



لم يجد الجار الرسام كرسيا ليجلس عليه فظل واقفا أمامهم يعرض عليهم اللوحات المتطابقة وهى بعنوان « ازدحام مرورى نحو السماء» كانت اللوحات باهرة وهى تصور الأرواح كفقاعات من الماء عليها غبش من السحب وهنا انتبه الثلاثة أن اللوحات لم تكن متطابقة تماما بل أن ملاكا بدا كشرطى المرور كان يقف على طرف من اللوحة وفى كل لوحة يحمل هذا الملاك ملامح وجه أحد الجيران الثلاثة الجالسين على الكراسى أمامه، عندما اكتشفوا ذلك صفقوا له وهم فرحون، لكن فى نفس الوقت كان هناك اجتماع غاضب يحدث فى مكان آخر انه اجتماع الزوجات، لا ليس الزوجات الثلاث فقط، بل زوجات الحى كله يستمعن فى هذا الاجتماع للخطر المحدق بهن والذى وصفته لهن الزوجات الثلاث.



فى ذلك اليوم علّق كل من الجارين اللوحة الخاصة به فى صدر الدار، وكذلك فعل الدكتور آدم ثم استغرق فى أبحاثه، وفى اليوم التالى اجتمع الجيران الثلاثة عند الدكتور آدم كالعادة، غير أن الرسام أتى بالكرسى المرتفع من مرسمه كى يجلس الدكتور آدم عليه، وقبل أن يزف إليهم خلاصة أبحاثه، سمعوا جلبة كبيرة فى الخارج، أصوات غاضبة تأتى إلى مسامعهم، وعندما فتحوا الباب وجدوا كل الجيران فى الحى فى مظاهرة يطالبون برحيل الدكتور آدم من حيهم. وعلى رأس تلك التظاهرة كانت زوجات الجيران الثلاثة، حاول الرجال صرف زوجاتهم، لكن الجمع الغفير كان غاضبا، وإمعانا فى الغضب أحضرت احدى الجارات زوجة الدكتور آدم وابنته بسيارتها، ليشهدا هذا التجمهر، لم يعرف الأصدقاء الثلاثة ماذا يفعلون، وتمنوا لو أنهم أتوا بأسلحة معهم ليدافعوا عن الدكتور آدم، لكنهم أحضروا من الفناء جاروفا و مقص الحشائش وشوكة تقليم النجيل تحسبا لأى فعل أحمق يصدر من الجمع الغاضب، أتت الشرطة لكنها جلست فى مقاعد المشاهدين، ولم تتدخل لان البلاغات المقدمة ضد الدكتور آدم كانت خالية من اتهام حقيقى يدينه فى شيء، لكنها أتت على أى حال لتتابع الموقف، والعجيب أن الدكتور آدم دخل معمله وأخذ يعمل بشكل يبدو طبيعيا، وكأن الحرب التى بالخارج لا تعنيه، زاد غضب الناس ولم تفلح أدوات الحديقة هذه فى منعهم من الاقتراب أكثر، وعندما استعد الناس للهجوم، خرج الدكتور آدم وقال أمام الناس الذين أتوا بغير كمامات ولا تباعد اجتماعى ولا شيء يرتدونه سوى الغضب، قال الدكتور آدم شكرا كوفيد 19 فلولاك ما استطعت أن أكتشف هذا الاكتشاف العظيم، لم يهدأ الناس عند هذه الجملة لكنه قال اليوم تستطيعون لأول مرة فى حياة البشرية أن تحدثوا موتاكم، لقد استغرقت سنين من عمرى أسجل كل نبرات البكاء للأطفال حديثى الولادة فى هذه المدينة وأحلل وأفك الشفرات إلى أن اكتشفت أنهم يحملون لنا رسائل من موتانا، اليوم تستطيعون أن ترسلوا إلى موتاكم رسائلا مع المشرفين على الموت وتستقبلون الرد الذى يأتى لكم مع بكاء المواليد لقد اختبرت ذلك بنفسى مع عائلة جبريل بالأمس لقد استقبلوا رسائل من أبيهم. ومن بين الحشود ظهرت عائلة جبريل فعلا وعبرت كل المتجمهرين ووقفوا بجانب الدكتور آدم مؤكدين ما قال



قالت سارة زوجة الفقيد وهى تمسح دموعها لقد استقبلت رسالة من زوجى بالأمس أتى بها حفيدى الذى ولد،لقد كان شيئا استثنائيا أن يرسل الأموات لنا يقولون ما يشعرون به وما يقلقهم فى الحياة الأخري، أن هذا حقيقيا أيها الجيران الأعزاء. صار لنا اتصال معهم هناك، لكم اشتقنا إلى سماع أى كلمة من أب أو زوج أو ابن مات لقد مات زوجى منذ خمس سنوات والآن سمعت صوته فى بكاء حفيده،



كان الجميع يستمعون وكل واحد فيهم يفكر فيما يريد أن يقول لميته.



وعليكم أن تتخيلوا معى ما حدث بعد ذلك، وتلك الأرباح الطائلة التى جناها الدكتور آدم متفوقا على بائعى الكمامات والباحثين عن لقاح فقد وجد هو لقاحا لجرح لم يندمل فى حياة البشر كلهم.