عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
اختبار الحمى والمناعة فى الجسد الأمريكى
21 نوفمبر 2020
د. سليمان عبد المنعم


لعلّ ما تعيشه أمريكا اليوم بمناسبة نتائج انتخاباتها الرئاسية يشبه صراع الحمى مع جهاز المناعة فى جسد الإنسان. للحمى الأمريكية أعراض شتى. انقسام شعبى غائرإثر حصول الرئيس المغادر ترامب على 73 مليون صوت فى الاقتراع الشعبى مقابل 79 مليونا حصل عليها الرئيس الفائز بايدن. صحيحٌ أن الفارق فى نسبة التصويت لمرشحى الحزبين الجمهورى والديمقراطى يتراوح غالباً بين 2 أو 3% لكن الوضع مختلف هذه المرة، لأننا أمام رئيس أمريكى يرفض القبول بفوز خصمه بعد أن فاز بالفعل! كأنه طفل عنيد يرفض التخلى عن لعبته فيقوم بعرقلة إجراءات المرحلة الانتقالية. يسعى للزج بالمحكمة الفيدرالية العليا لجانبه بعد أن تحسّب وخطّط وزاد عدد أعضائها ذوى التوجه المحافظ على القلة ذات التوجه الليبرالي. تنتقل الحمى من صراع الأشخاص والأحزاب إلى صراع على النظام الانتخابى بل وآليات النظام الفيدرالى نفسه.



بالمقابل يعتمد جهاز المناعة الأمريكى على دستور عريق، ومؤسسات قوية، وتقاليد عمل مستقرة منذ مائتى عام، وإعلام قوى مستقل تسبّب فى استقالة رئيس سابق هو نيكسون، ومحاكمة رئيس آخر على الهواء هو بيل كلينتون. بالطبع لأجهزة الإعلام انحيازاتها أحياناً لكنها تبقى إجمالاً مؤسسات مستقلة واحترافية ومنها ما يؤيد حالياً موقف بايدن رغم توجهها المحافظ المعروف مثل فوكس نيوز. ستنبئنا الأيام المقبلة كيف سيمضى الصراع بين الحمى وجهاز المناعة الأمريكية. المرجح أن تنتصر المناعة على الحمي، لكننا لا نعرف ما إذا كانت الحمى ستترك وراءها بعض الندوب ومظاهر الضعف خلال السنوات المقبلة، أم أن الجسد الأمريكى سوف يسترد عافيته ويجّدد خلاياه وكأن ترامب لم يمر عليه يوم. مرة أخرى سينبئنا المستقبل بالإجابة.



اهتمامنا كمصريين بنتائج الانتخابات الأمريكية يبدو مزدوجا وباعثا على الحيرة. فالرئيس المغادر ترامب كان مؤازرا للموقف المصرى العادل من قضية السد الإثيوبي. لهذا ستخسره مصر من هذه الزاوية، لكن مصر لم تكن تعنيه كثيراً بشأن مواقفه الأخرى فى الإقليم. ومن التسرع الاعتقاد بأن الرئيس الجديد بايدن سيأخذ بالضرورة موقفا معاديا لمصر حتى لو كان له كرئيس ديمقراطى تقييمات أو تحفظات على بعض الأمور. ولنتذكر أن الرئيس السابق باراك أوباما لم يحسم رأيه ويطالب مبارك بالرحيل إلا بعد أن اتضح له تماماً أن ثورة يناير قد فرضت نفسها على الأرض التى لا تبعد سوى مئات الأمتار عن السفارة الأمريكية بالقاهرة.علمتنا التجارب أن الإدارات الأمريكية تبحث عن المصالح لا المبادئ، ومن الصعب على أى إدارة أمريكية أن تستعدى مصر أو تتعامل معها كما تتعامل مع دول أخرى فى المنطقة لأسباب عديدة ومعقّدة يطول شرحها. ولهذا بدت بعض المعالجات الإعلامية المصرية تتسم بالخفة والغرابة وهى تتطوّع بخلق التماهى بين الإدارتين المصرية والأمريكية فى عهد ترامب والتباهى بتميز العلاقة بين الرئيسين المصرى والأمريكى ليسيء الدب الأرعن كالعادة إلى صاحبه، فالرئيس ترامب لدى أكثرية مواطنيه وحلفائه شخصية متطرفة يجهر بعنصريته علانية ويفتقر إلى النزاهة الأخلاقية. نحن نشوّه الوطنية حين نصوّر ترامب بأنه زعيم وطني، فالرجل يزيّن صدره كثيراً بدبوس العلم الأمريكي، لكنه فى الجوهر والسلوك يتصرف كرجل عقارات لا تهمه سوى مصلحة شركاته ومن بعده فليأت الطوفان، بل هو يقود أمريكا حالياً إلى ما يشبه الطوفان.



بلغت الحمى الترامبية حد الهذيان بشأن ادعاء المؤامرة بتزوير الانتخابات التى كان يؤكد وجودها حتى قبل أن تبدأ بعدة أشهر. والحقيقة أن ترامب مقتنع فى داخله بأنه خسر الانتخابات ويدرك تماماً أن بايدن هو الفائز، لكنه ينصب هذا السيرك الدعائى الذى نال بشدة من الهيبة الأمريكية فى العالم لكى يشوّش على هزيمته وينغّص على بايدن وعلى الديمقراطيين انتصارهم، ويقوم بمحاولة استباقية لوضع العصى فى الدواليب بهدف إرباك الإدارة المقبلة، وربما لأنه يسعى لتوظيف الـ 73 مليون صوت التى حصل عليها لتغذية تياره الشعبوى بعد رحيله ليستعد هو أو حزبه منذ الآن لانتخابات 2024، وربما يحاول الإيهام بقدرته على تعقيد المشهد كله لكى يساوم على عفو يحميه من ملاحقات قضائية محتملة أو ما يمكن تسميته بالخروج الآمن على الطريقة الأمريكية.



يسعى ترامب بحيل قانونية شتى لتصوير المسألة بانتخابات متنازع عليها لتحسمها المحكمة الفيدرالية العليا ذات الأكثرية المحافظة. يحاول تأزيم وتفخيخ فوز بايدن بأمرين، أولهما التشكيك فى قانونية التصويت البريدى الذى كان يعلم منذ شهور أن نتيجته لن تكون لصالحه، ولهذا أُصيب مبكراً بحمى الاعتراض عليه. التصويت البريدى كان مقيّداً ومشروطاً لكن تم التوسع فى استخدامه فى بعض الولايات بتأثير جائحة كورونا، ومثل هذه المسائل الإجرائية تنظمها القوانين المحلية وتعتبر أموراً تخص كل ولاية، قد يشكّل هذا ميزةً أو عيباً لكن تلك هى خصوصية النظام الانتخابى فى دولة فيدرالية بحجم القارة. الأمر الثانى هو الإيحاء بتزوير الانتخابات لصالح بايدن من باب التقاط بعض المخالفات الانتخابية، وهو أمر وارد الحدوث. والواقع أنه لا توجد انتخابات فى الدنيا بأسرها تخلو من بعض المخالفات الإجرائية أو تزوير بعض الأصوات، لكن النظم القانونية العالمية تكاد تتفق على أنه لا ينال من سلامة نتائج الانتخابات أن توجد حالات تزوير محدود غير مؤثر إذا كان عددها بفرض كونها تزويراً لا يغيّر النتيجة النهائية للانتخابات.



هل تصمد مناعة الجسد الأمريكى فى مواجهة حمى العنصرية والشعبوية التى تغزوه؟ تتوقف الإجابة على قدرة ثلاث قوى فى جهاز المناعة. قوة المؤسسة القضائية هى التى ستحسم المواجهة حال استمر ترامب واستمرأ موقفه الرافض لنتائج الانتخابات. فى هذه المؤسسة القضائية محاكم محلية ومحكمة فيدرالية عليا. الأولى تصدت وتتصدى حتى الآن لمشاكسات فريق ترامب، أما الثانية فسوف يمثل موقفها المرتقب مشهد الإثارة الأكبر حال وصول النزاع القانونى إلى أبوابها. هناك ثانيا قوة الضمير الديمقراطى لدى رموز وقادة الحزب الجمهورى نفسه باعتبار أنه حتى اللحظة صاحب الأغلبية فى مجلس الشيوخ، وباعتبار أن بإمكانه (نظرياً على الأقل) أن يمارس لعبة المجمع الانتخابى حينما ينعقد فى 14 ديسمبر المقبل بخروج بعض أعضائه فى الولايات التى فاز فيها بايدن على التفويض الشعبى الممنوح لهم والانتقال من معسكر بايدن إلى معسكر ترامب. لكن هذه اللعبة ذات السوابق النادرة التى استحق أصحابها وصف الخونة لعبة خطرة على مستقبل الديمقراطية الأمريكية كلها. أخيراً هناك المصدات الحمائية الأخرى للديمقراطية من مؤسسات الدولة، ووسائل الإعلام، والنخب السياسية والفكرية، وعموم الشعب الأمريكي. هؤلاء هم الذين سيكشفون فى الفترة المقبلة ما إذا كان ترامب لحظة عابرة ووعكة طارئة أصابت أمريكا ثم اختفت، أم أن الترامبية قد تغلغلت فى المجتمع الأمريكى بأكثر مما نتصوّر، وأنها لم تعد تتمثل فى شخص ترامب فقط بل أصبحت تياراً تجاوز قوامه 70 مليون أمريكي. فلننتظر ونري!