عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
استقالة تمثال الحرية!
17 نوفمبر 2020
أنور عبد اللطيف


بعد غياب ثلاثة أيام عاد الرئيس على خطى امرئ القيس حين خرج يطلب ثأر أبيه فلم يظفر بشىء فقال لصاحبه: رَضيتُ مِن الغَنيمَةِ بالإيابِ، وعلى طريقته عادت تغريدات ترامب: جو بايدن فاز لأن الانتخابات مزورة، الأموات يصوتون من القبور، الأحياء يمنعون من الوصول إلى اللجان، لجان سرية لتسويد البطاقات، 2000 صوت شرعى للرئيس على حدود كندا، أعطال فى ماكينات الفرز تحذف 2.5 مليون صوت، الأصوات تنهمر بكل الوسائل غير المشروعة، الصناديق تواصل الوصول بعد الإغلاق الشرعى، استغيث بالقضاء: إذا أحصيتم الأصوات الشرعية أنا الفائز وإذا أحصيتم الأصوات التى تهبط بالبريد يمكنهم سرقة الانتخابات منّا.. الرئيس يتهم الصحافة واستطلاعات الرأى بالتضليل وإصابة أنصاره باليأس، من العار أن يعلن الاعلام المزور فوز الرئيس.



كل العناوين السابقة تصف نتائج انتخابات الولايات المتحدة الأمريكية، وباء ديمقراطية العالم الثالث يجتاح العالم الأول، والرئيس الذى يستغيث يرأس مجلس إدارة الكون، أشبعنا أوامر على مدى أربع سنوات: ادفع نحمك.. أنت محاصر..ادفع نرفع العقوبات.. أنا الأمين على خزائن الأرض وثروات الشعوب.. أنا الرئيس الشرعى ..أنا الضامن لفتح الاقتصاد ضد الإغلاق رغم أنف فيروس كورونا، أنا رمز قوة أمريكا الرأسمالية وحامى الليبرالية، فى بنسيلفانيا هتف أنصاره أوقفوا الفرز، ومن فيرجينيا صاح منافسه: واصلوا الفرز حتى آخر صوت، وفى نيويورك انحنى تمثال الحرية خجلا وقدم استقالته للرئيس الإعلامى المنتحب!.



نفس الاتهامات سمعتها على مدى عقود لوصف انتخابات فى العالم الثالث، اسطوانة رددتها جماعات الرأفة بالديمقراطية عن انتحار تداول السلطة فى فنزويلا وتشيلى ورواندا والقرم والسودان، أصابنى القلق.. انتخابات مصر للشيوخ والنواب تمت هذا العام بلا إدانات من هذا النوع، سقط من سقط بحكم عوامل التعرية وتغير الفصول، ونجح من «دفع» دماء جديدة فى الحياة السياسية!.



لكن فى أمريكا لم يقبل ترامب أن يوصف بأنه الجمهورى الذى أدار الانتخابات بنزاهة ويعترف بفوز بايدن، وواصل ادعاء تزوير الانتخابات، ومن العار إعلان فوز الرئيس بالإعلام ، ست قنوات تليفزيونية قاطعت تصريحات ترامب، الخادشة لقيم الدولة، تويتر يتحالف مع الصحافة ويبصم تغريدات الرئيس بجملة: «باطل» و«بيانات غير مؤكدة».. الرئيس يشعل الحرب الباردة بين الولايات: البلد تسلم للاشتراكيين واليساريين وأعداء الحرية، فوكس نيوز تستصرخ كيفين مكارثى زعيم الجمهوريين فى النواب لدعم الرئيس: الديمقراطيون يغيرون قواعد اللعبة يسمحون بالتصويت لأقل من 17 سنة، اذ لم نفز بهذه الانتخابات فكبرياء الدولة والتماثيل والفن والقانون والنظام فى خطر، المتشددون الأجانب سيحتلون البلاد، مكارثى الأب, جوزيف, ينهض من قبره بعد 62 سنة، تهمة الشيوعية والإلحاد مازالت صالحة لتصفية الخصوم، استدعاء فزاعة المد الأحمر، ادعاءات دون دليل عن شيوعيين وجواسيس للسوفيت ومتعاطفين داخل الحكومة الفيدرالية الأمريكية، بوق المكارثية الجديد يعلم أن فزاعة جده أهانت حرية الصحافة الأمريكية وأرسلت المثقفين إلى السجون فى الستينيات، لكن عند خراب البيوت، انتفضت الصحافة وكشفت تورط مكارثى فى تجارة المخدرات.. فكانت نهاية «المكارثية»، وانتقلت الصحافة من ذل الخوف إلى براح النقدية والحرية الفكرية. رصدت دراسة للمؤرخ الصحفى ماثيو برسمان حقبة الستينيات وما بعدها بفخر، طرحت أسئلة حرب فيتنام، نشرت أوراق البنتاجون السرية.. عرت كل رجال الرئيس، وصارت صورة المراسل الصحفى بطلا باحثا عن الحقيقة وانتشرت التحقيقات الاستقصائية لتنافس تقارير التليفزيون فى جميع أنحاء البلاد، اجتازت الصحافة اتهامات اليمين لتبنيها مواقف معارضة لسياسات الدولة، كما تحررت الصحافة من اتهامات اليسار بأنها أصبحت مؤسسة رسمية. وانتفضت فى وجه السلطة بادئة بنائب الرئيس سبيرو أجينيو، كشفت الصحف حقيقة تورطه فى جرائم الرشوة والتزوير الضريبى. ثم واجهت الرئيس نيكسون نفسه، كشفت الصحف تورط إدارته فى فضيحة التجسس على مقر الحزب الديمقراطى، وأمام حصار المعلومات استقال الرئيس نيكسون وخرج من البيت الأبيض، وهى نفس النهاية التى تنتظر الرئيس ترامب، الناخب الأمريكى يمهل ولا يهمل، مهما تطل حالة الانكار واستدعاء المؤامرة لتخويف مؤسسات الإعلام والصحافة، عملاق الحقيقة سيخرج من الصناديق!.



وللحقيقة.. فإن «الترامبية» قدمت خدمة جليلة للحرية فى أمريكا والعالم: أثبتت أن طوق نجاة الصحافة فى تحالفها مع السوشيال ميديا، معا يستطيعان إزاحة أى رئيس، وأضافت «الترامبية» وظيفة جديدة للصحافة غير التثقيف والإخبار والتسلية.. صار من وظائفها التحقق وإثارة الأسئلة على طريقة ديكارت.. أنا أشك فى معلومات وتغريدات الرئيس إذن أنا موجود!.