عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
ترامب ــ بايدن ــ القاهرة وبالعكس
15 نوفمبر 2020
نبيـل عمــر


تبدو التصورات أحيانا فى بلاد الشرق العربى عن الولايات المتحدة جامحة جدا، خاصة فى فترات انتقال السلطة بين الجمهوريين والديمقراطيين، كما لو أن دولة جديدة بإستراتيجيات وسياسات جديدة سوف تولد مع الإدارة القادمة إلى البيت الأبيض، ومن هنا هللت جماعة الإخوان بحصول المرشح الديمقراطى بايدن على أغلبية المجمع الانتخابي، والذى لم يعلن بعد فوزه رسميا بالرئاسة الأمريكية، وحلقت بأجنحة من الشمع فى سماء التمنيات، كما لو أن بايدن هو طوق نجاة من بحر الظلمات الذى أغرقوا أنفسهم فيه، فهو كان نائب الرئيس الأسبق أوباما كفيل الجماعة وداعمها الأكبر فى  الجانب التآمرى من أحداث الربيع العربى حتى الوصول للسلطة، بل إن إعلاميين كُثُر أفرطوا فى تنبؤات ما أنزل الله بها من سلطان، وقد سألنى صحفى مخضرم: تفتكر ممكن أن تحدث مصالحة مع الجماعة ويرجعوا إلى المشهد؟



ضحكت: فى المشمش.



قطعا هذا تصور ساذج فيه من الأمانى أو المخاوف أكثر مما يحتمل الواقع، أمريكا ليست روما القديمة، وليست جمهورية الموز يحكمها ديكتاتور عصرى فى ثياب أنيقة، يشير بيمينه فتمضى الدولة إلى اليمين، يشير بيساره فتمضى الدولة إلى اليسار. 



أمريكا دولة صعبة جدا فى إدارتها وتسيير أمورها، بسبب تعدد مراكز القوى السياسية فيها: البيت الأبيض، الكونجرس بمجلسيه الشيوخ والنواب، التكتلات الصناعية الكبري: السلاح والدواء والاتصالات والترفيه، ثم جماعات الضغط الكثيرة (اللوبيات)، ويتقدمهم جميعا البنتاجون وهو لاعب أساسى ومتحكم من خلف الستار عكس مفاهيم شائعة عن ديمقراطية الغرب، والمؤسسة العسكرية الأمريكية ليست هى وزير الدفاع على الإطلاق.



بالطبع لا يستطيع الرئيس جوزيف بايدن حين يجلس خلف المكتب البيضاوى أن يقلب كل السياسات الخارجية رأسا على عقب، ويستبدل الحلفاء ويعيد ترتيب الأوراق على هواه، فهو ليس لاعبا وحيدا، إنما رئيس فريق كبير ومُنَظِم أعماله، نعم له رأى وفكر وقرار وهامش حركة، لكنه ليس مالك الفريق وملكه، وأى قرار له سوف يرجع به إلى مؤسسات كثيرة، قد توافق عليه، وقد ترفضه، وقد تعيده ليعدل فقراته ونصوصه وتوجهاته.



وإذا ضربنا مثلا بالموقف الأمريكى من مصر،  سنجد تناقضا واضحا ما بين الحفاظ على الصداقة والتصرفات العدائية مع وجود مساحة مرنة بينهما، وقد وقعت إدارة الرئيس أوباما فى أخطاء كبري، فلم تعترف بما جرى فى مصر شعبيا في 30 يونيو بعزل الإخوان من السلطة، ثم عملت على منع مصر من فض اعتصامات رابعة العدوية والنهضة فى توقيت مناسب، وفى ظروف أفضل وبخسائر أقل، حتى تتوسع الاعتصامات وتصبح عنصرا ضاغطا مؤثرا فى أى مفاوضات بين الدولة والجماعة، ولم تكن الولايات المتحدة تسعى إلى مصالحة وطنية كما زعمت وقتها، وإنما كانت تبحث عن عودة الجماعة إلى مكان بارز على مسرح الحياة المصرية. كانت تلك أيام وانتهت بكل عناصرها ومؤثراتها، ولم يستطع باراك اوباما وقتها والأحداث ساخنة وملتهبة، والأوضاع فى حالة سيولة أن يؤثر فى مسارها النهائى الذى حددته إرادة المصريين، نعم المصريون هم الذين صنعوا  تلك النهاية، وهم الذين أفسدوا مخططا موضوعا من مدة طويلة أُنْفِق عليه مليارات الدولارات، لكن ثمة مؤسسات داخل الإدارة الأمريكية فرملت الجزء المندفع من الإدارة  لمساندة الجماعة ضد إرادة المصريين خوفا من أن يخسروا مصر على النحو الذى حدث فى الخمسينيات مع عبد الناصر.



وهذا الانقسام النسبى مازال موجودا داخل المؤسسات الأمريكية، لأسباب منها إسرائيل وضمان أمنها المطلق، لكن يحكمه رؤية إستراتيجية عدم خسارة مصر حليفا فى المنطقة، يعنى ممكن خلافات، ضغوط، برود، استغلال ملفات مفتوحة لكن دون الوصول بأى حال إلى جفاء طويل. وهى رؤية معمول بها بعد حرب أكتوبر 1973، وقد حدث فى مايو 1974  خلال زيارة نيكسون لمصر بعد قطيعة تجاوزت عشرين عاما، حيث نظم الرئيس أنور السادات حفل عشاء فاخر على شرف الرئيس الأمريكي، وجاءت جلسة الدكتور على السمان رئيس وكالة أنباء الشرق الأوسط حينذاك بجوار ضابط كبير فى المخابرات المركزية، ودار حوار دافئ فى جو مفعم بالبهجة والتفاؤل، فإذا بالضابط الأمريكى يقول لعلى السمان: أخيرا عدنا إلى القاهرة ولن نفقدها أبدا! وبالفعل لم تحاول الولايات المتحدة أن تخسر مصر من ساعتها، مهما دخلت العلاقات بينهما إلى مطبات وتناقضات تتصاعد حدتها أو تخفت، وقد ظل الطرفان حريصين على شعرة معاوية بينهما فى أشد الأوقات حرجا. وبالرغم من توتر العلاقات مع إدارة أوباما وبرودها مع إدارة جورج بوش الأبن فى الولاية الثانية إلا أن شعرة معاوية لم تٌقطع، مع أن مصر اتخذت خطوات كثيرة لم تأت على هوى هذه الإدارة  أو تلك وكثيرا ما أغضبتها.



واتصور أن الوضع مع بايدن، إذا نجح ولم يعيد القضاء ترامب إلى البيت الأبيض، سيكون أفضل كثيرا من أوباما، فكل عناصر اللعبة السياسية والظروف العامة فى المنطقة تغيرت تماما، ولم تعد الأفكار التى تبنتها مؤسسات فى الإدارة الأمريكية صالحة الآن، ومنها فكرة نقل صراع الإسلام السياسى ضد الغرب إلى الدول العربية، لرفع مخاطر التنظيمات الجهادية عن كاهل الغرب،  وإشغال شعوب تلك الدول بحكومات دينية يندلع عنها صراعات بين كل التيارات حول الشريعة وتطبيقها والديمقراطية ومدى توافقها مع الشريعة، مع دخول الشيعة فى الصورة، فيتمدد النموذج العراقى فى المنطقة ويسود. لكن لم توقف الصراعات فى المنطقة  عمليات المتطرفين فى أوروبا، بل العكس هو الصحيح، كما رفعت وتيرة الهجرات غير الشرعية إلى الغرب بكل ما تحمله من مشكلات..أى كان ثمن الفوضى باهظا.والأهم أن بايدن له علاقات قديمة بالمنطقة، وعلى دراية تامة بتفاصيل العلاقات المصرية الأمريكية منذ السبعينيات، قد يناور لكن ليس أمامه إلا المحافظة على الأوضاع الحالية وربما يحسن بعض جوانبها، وعموما علاقة مصر بأمريكا علاقة درامية، فيها صعود وهبوط كأى صراع، ولها خطوط فاصلة، فلا مصر تريد خسارة قوة عظمى مؤثرة، ولا أمريكا ترغب فى خسارة قوة إقليمية محورية.