عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
الشاعر حسن طلب: قضيت 6 سنوات فى الجيش وشاركت فى حربى الاستنزاف والعبور
30 أكتوبر 2020
عرفة محمد أحمد



  • على الشاعر أن يوفق بين مشاعر الجندى وعواطف العاشق


  • القوة التعبيرية للكلمة لا تأتى من معناها وحده بل من ظلالها الصوتية وتكوينهاوتاريخها







من الأرض التى أنجبت رفاعة رافع الطهطاوي، رائد التنوير فى العصر الحديث، جاء شاعرنا الكبير الدكتور حسن طلب، صاحب المسيرة المميزة والبصمات المهمة فى القصيدة العربية المعاصرة، هو الجنوبى القادم من قرية بمركز طهطا فى سوهاج، والمولود فيها عام 1944، حيث ظهرت موهبته الشعرية فى طفولته، والحاصل على الماجستير فى الفلسفة والدكتوراه، وأستاذ علم الجمال بكلية الآداب قسم الفلسفة جامعة حلوان.



لشاعرنا الكبير الدكتور حسن طلب العديد من الدواوين التى تتميز بالمزج بين الشعر والرؤية الفلسفية، لكن الشعر رجحت كفته عن الفلسفة، ومن أشهر أعماله: «وشم على نهدى فتاة»، «سيرة البنفسج»، «أزل النار فى أبد النور»، «زمان الزبرجد» «آية جيم»، »بستان السنابل»، «المقدس والجميل»، «أصل الفلسفة».



كما نال جائزة الدولة التشجيعية فى الآداب، وجائزة كفافيس اليونانية للشعر فى 1995، وجائزة السلطان قابوس للإبداع الثقافى فى 2006، مناصفة مع الشاعر العمانى سيف الرحبى.



..................................



للحروف أهمية فى اللغة وربما دفع هذا الأمر كثيرين للبحث عن دلالتها وأسرارها الإلهية هذا الأمر يُحيلنا إلى السؤال عن ما هية ميتافيزيقا الحروف وما وظيفتها فى الكتابة الشعرية؟



هذا سؤال مهم وخطير؛ ويكفى أن «ابن خلدون» قد وقف حائرا أمام «علم أسرار الحروف !.



وقد توقفت عند هذا العلم الغامض الغريب فى كتابى (المقدس والجميل)، والحرف فى ذاته هو أحد مكونات الكلمة التى كان لها فى أى لغة دور سحرى لا ينكر، وبشكل خاص فى المراحل الأقدم من تاريخ البشرية. غير أن هذا الدور لم ينته تماما، فما زالت القوة التعبيرية للكلمة المفردة لا تأتى من معناها وحده، بل من ظلالها الصوتية، وتكوينها، وتاريخها المشحون بشتى الدلالات الغيبية أو الميتافيزيقية. وقد عرف عرب الجاهلية مثل غيرهم من الشعوب القديمة، القوة السحرية للكلمة من خلال سجع الكهان وما ارتبط به من طقوس، كما عرفوا الطاقة السحرية للاسم، ومع نزول القرآن نشأت علاقة جديدة بالكلمة والحرف، لأن الكلمة أصبحت حينئذ موضع تقديس لكونها قبل كل شىء كلمة الله التى أوحى بها.



والقوة السحرية للكلمة يمكن أن تنتقل إلى ما يدخل فى تكوينها من حروف، ويرتبط ذلك بالنظرية الميتافيزيقية التى عزت إلى الحرف دلالات دينية وسحرية؛ على ضوء ما ورد فى القرآن الكريم من سور تبدأ ببعض الحروف؛ فأخذ المفسرون يذهبون فى تأويلها وفقا لاتجاهاتهم ومواقفهم الفكرية والسياسية، فما نراه من تفسير للحروف عند السنة هو بالتأكيد غير ما نراه عند الشيعة، وما نراه عند الشيعة هو غير ما نراه عند الصوفية.



وإذا كان الرأى الغالب عند السنة فى تأويل رمزية الحروف القرآنية هو اعتبارها مجرد أسماء للسور، فإن الذى يهمنا فى هذا المقام، هو وجهة النظر التى اعتبرت الحروف رموزا، وراحت تجتهد لتقديم تصوراتها عن الطريقة المثلى لفك هذه الرموز، وذلك هو ما نجده عند الشيعة والصوفية؛ حيث أصبحت الحروف كيانات رمزية يجب الوقوف عندها وتأويلها لاستخراج مرموزاتها؛ وقد بلغ التأويل الرمزى للحروف أوجه على أيدى أصحاب (العقيدة الحروفية)، وهى فرقة اعتمدت على النتائج التى توصل إليها الباحثون فى الحروف واستغلتها لتجعل منها دينا كاملا، يتخذ أصوله من قيم الحروف العددية، إلى آخر ما ذهب إليه فى هذا المقام أعلام الحروفيين مثل «فضل الله الحروفى» إمام هذه الفرقة، الذى انطلق من قول على بن أبى طالب: (جميع الأسرار الإلهية فى الكتب السماوية، وجميع ما فى الكتب السماوية فى القرآن العظيم، وجميع ما فى القرآن العظيم فى بسم الله، وجميع ما فى (بسم الله) فى (باء) بسم الله، وجميع ما فى (باء بسم الله) فى (النقطة) التى تحت الباء، وأنا النقطة تحت الباء)، وهكذا أطلقوا على عليّ لقب صاحب النقطة التى تجمع مادة الحروف كلها من الألف إلى الياء، حتى تظهر الكلمة من النقطة من جديد.



وتبنى الحروفيون من على بن أبى طالب أيضا قوله «العلم نقطة كثرها الجاهلون»، وأخذوا فى تأويل هذه النصوص وغيرها تأولا ربط الحروف بقيم الأعداد وربط الأعداد بأمور الغيب وأسرار الخلق، حتى لقد أصبحت رمزية الحرف على يد هذه الفرقة مذهبا قائما بذاته.



وأظن أن من يقرأ ديوان (آية جيم) دون أن يلم بهذه النظرة إلى الحروف.



شاركت فى حربى الاستنزاف والعبور.. هل تركت تلك التجربة تأثيرًا فى إبداعك؟



قضيت ست سنوات مجندا، منذ صيف 1968 حين تخرجت فى كلية الآداب قسم الفلسفة وعلم النفس، إلى 1974 حين انتهت المهمة العسكرية وخلا الملعب لرجال السياسة بحيلهم وألاعيبهم التى قد تهدر ما أحرزه العسكريون من انتصار! وهى فترة طويلة فرضت نفسها على مسيرتى الشعرية منذ الخطوة الأولي.



وربما لا يكون الشاعر الشاب محظوظا حين يجد نفسه وهو لم يزل يحبو؛ فى مواجهة تجربة كبرى مثل تجربة الحرب؛ بكل ما فيها من موت ودمار شامل. كان على الشاعر الشاب أن ينجح فى امتحان عسير كهذا؛ فيوفق بين مشاعر الجندى المقاتل على الجبهة، وعواطف العاشق التى بدأت براعمها تتفتح فى تلك السن المبكرة؛ والتى لم تجد متنفسا إلا فى الإجازات القصيرة المتاحة للمقاتل.



عانيت هذه التجربة المزدوجة على المستوى الإبداعي؛ وتجسدت هذه المعاناة فى ديوانى الأول: (وشم على نهدى فتاة)، والديوان الثانى (شموس القطب الآخر)؛ وهما الديوانات اللذان كتبتهما من حرب الاستنزاف إلى حرب أكتوبر؛ غير أن هذه الازدواجية لم تكن عائقا بقدر ما كانت حافزا إضافيا للوصول إلى رؤية شعرية يمتزج فيها الحب بالحرب؛ فيذوبان معا لتشملهما تجربة فنية واحدة. بالطبع تجربة الحرب كانت مليئة بالذكريات.. حدثنا عنها وماذا كان دورك فى تلك الملحمة كمجند؟



خدمت فى سلاح مدفعية الميدان، وكنت قائد فصيلة، ودور هذا السلاح يتركز فى تمهيد الطريق للمشاة والدبابات لكى تعبر، عن طريق تكثيف النيران على المناطق المراد العبور إليها، وجاء دورنا يوم 14 أكتوبر فى العبور للضفة الثانية؛ للتخفيف على الجبهة السورية، وفى أثناء إطلاق المدفعية على خطوط العدو المتقدمة، جاءتنا الأوامر مرة أخرى بعد 3 أيام بالانسحاب بعد حدوث ثغرة »الدفرسوار«.



وقبل العبور كانت هناك نشرة مستمرة تهيئنا لفكرة الحرب، كان يصدرها الفريق سعد الدين الشاذلي، رئيس الأركان الأسبق، ويطلق عليها اسم »نشرة الحقائق« والتى كانت تضعنا فى الصورة، وتعرفنا سلاح العدو، وأحسن طريقة لمواجهته، وأثناء الحرب حصل عملية »الخطبة«، وحضر زملائي، وكتبت قصائد غزل فى الحرب.



وهكذا ترى كيف أن تجربة الحرب عندى قد اتسعت لتشمل جبهات أخرى بالإضافة إلى الجبهة الأولى الأساسية: جبهة القتال.



خلال الأسابيع الماضية شهد سوق الكتاب تداول عدد كبير من الروايات الصادرة عن دورنشر كبري، وهى الروايات التى وجدت إقبالًا من الجمهور.. فكيف ترى الانتشار الكبير للرواية؟



المعيار الكمى لا يصلح مطلقا لتمييز فن عن آخر؛ فإذا كانت الرواية هى الأكثر رواجا الآن؛ فعلينا ألا نتسرع لنستخلص نتائج عامة تنطوى على أحكام قيمية قاطعة! لأن أقل القليل من هذا الكم الهائل من الروايات التى تنشر هنا وهناك؛ هو الذى يحمل قيمة فنية حقيقية تؤهله للبقاء؛ وليس مجرد الاستهلاك الآني.



أما (زمن الرواية) فهو مجرد شعار أجوف أطلقه أحد النقاد من عبدة (المناصب)، وهواة الضجيج الإعلامي! أعرف واحدا منهم كتب مرة يقول وبكل تبجح: لا يوجد شعر فى مصر كلها، الشعر فى العراق والشام!.



والحق أن اختزال زمن معين ليكون وقفا على فن بعينه؛ هو فى نظرى نوع من الغباء النقدى الناتج عن عمى البصيرة؛ فكل زمن هو زمن الفنون كلها؛ من رواية وشعر ونثر؛ إلى الفنون غير الأدبية مثل الموسيقى والفن التشكيلي؛ والمعول هنا هو على التمييز بين الرفيع والهابط أو المبتذل فى كل الفنون؛ وليس على تفضيل أحدها على سائرها؛ وهو ما تقاعس عنه نقاد هذا الزمن للأسف.



ولهذا أستطيع أن أقول وأنا مطمئن: إن هذا الزمن هو زمن غياب الناقد العظيم من مرتبة محمد مندور ولويس عوض وشكرى عياد ونظرائهم، إنه زمن انحسار النقد الجاد وسيادة النقد الاستهلاكي.



ولكن دور النشر ترفض أو نقول تتردد فى نشر الدواوين الشعرية بحجة أنها لا تبيع.. فهل أصيب الشعر بحالة من الانحسار فى ثقافتنا المعاصرة؟



ربما لا تدل كلمة (الانحسار) هنا إلا على الحال فى (سوق المبيعات)! وحتى إذا صح هذا، فالملوم ليس الشاعر؛ فالشعر من الفنون التى تحتاج إلى متذوق خاص لأن ترويج الشعر يحتاج مع الشاعر المنتج للنص الجيد؛ إلى مناخ ثقافى صحي؛ يكون فيه الناقد صاحب الرسالة، إلى جانب المتخصص فى الإعلام الثقافي، والتربوى المسئول عن اختيار النصوص الشعرية فى مراحل التعليم المختلفة؛ فإذا غاب هؤلاء أو كانوا من غير أصحاب الكفاءة والضمير الحي؛ فلن يستطيع الشاعر وحده عمل شيء، ولن يتغير الأمر حتى لو جئت بالمتنبي! .



ما أسباب الغياب شبه المطلق للقصيدة العمودية؟



لا أظنه غيابا مطلقا؛ فكثيرا ما رأيت نصوصا شعرية عمودية لبعض شباب الشعراء هنا وهناك. والحق أننا نخطئ كثيرا حين نبدأ بتصنيف الشعر شكليا إلي: عمودى، وشعر حر (تفعيلة)، وقصيدة نثر؛ لأن انشغالنا بهذا التقسيم الثلاثي، مع التعصب لشكل واحد دون سواه؛ سيؤدى بنا حتما إلى إهمال التقسيم الثنائى اللازم جماليا، إلى شعر جيد وشعر رديء؛ أو إن شئت إلي: شعر.. ولا شعر، وفى هذه الحالة ستجد أن كل شكل من الأشكال الثلاثة، فيه ما هو شعر حقيقي، إلى جانب ما لا يمت إلى الشعر بصلة!



وأظن أننا ما دمنا حتى الآن نستمتع جماليا بالنماذج الفنية الرفيعة من القصيدة العمودية، كما تجلت عند الشعراء الكبار فى تراثنا؛ مثل أبى تمام والمتنبى والمعرى والشعراء الصوفيين؛ فالقصيدة العمودية لم تمت؛ لأن الأشكال فى الفن لا تموت.



هل هناك قائمة كتاب وشعراء قريبة من قلب الشاعر حسن طلب؟



ليس لدى من قائمة جاهزة؛ ولا أنصح أحدا بها؛ إذ يجب أن تترك نفسك لغريزة الفضول وحب الاكتشاف، فقد تقع على غير ما أجمع عليه الناس فى عصرك من روائع الأدب؛ ولكن ربما يقع الشاعر، لا سيما فى مراحل التكوين الأولي، تحت تأثير هذا العلم أو ذاك من أعلام الشعر ورواده؛ وهو أمر وارد ومفهوم؛ ولكن غير المفهوم، بل وغير المقبول، أن يستمر هذا التأثير فى مراحل النضج التالية.



ومن جانبي، فقد كنت من أشد المعجبين بالدكتور زكى نجيب محمود وهو يدرس لنا (المنطق الوضعي) فى الجامعة؛ ثم أذهب إلى كتاباته الأدبية خارج أسوار الجامعة؛ لأجد أديبا بارعا من كبار أصحاب الأساليب فى لغتنا العربية؛ ومن أكثرهم قدرة على ردم الهوة بين الفلسفة والأدب، ولهذا لم أتردد فى أن أعرض عليه أولى محاولاتى الشعرية؛ وكم كانت توجيهاته ذات أثر بالغ فى تكوينى الثقافى بوجه عام، وكان لا بد من أن يأتى الوقت الذى أتحرر فيه من أسره وأتمرد عليه؛ وقد أتى بأسرع مما أتوقع، حين صدمنى دفاعه المستميت عن القصيدة العمودية، ووصفه لقصيدة الشعر الحر بأنها (كوم سائب بلا ملامح من الرمال)! فأنى بعباس محمود العقاد يتكلم بصوت زكى نجيب محمود! ولعلى الآن أستطيع أن أفهم كيف وقعت فى حب »أبى العلاء المعري« الذى أراه شاعر العربية الأول، كأننى كنت مشغولا على الدوام بعبور آمن للهوة بين الشعر والفلسفة؛ فوجدت ضالتى فيه.



كيف ترى وظيفة الرمز فى الكتابة الأدبية؟



ظهر المذهب الرمزى فى فرنسا خلال القرن التاسع عشر؛ وكان هدفه الأساسى هو مواجهة الرومانسية والبرناسية؛ غير أن الرمز كان حاضرا منذ القدم فى النصوص الدينية والأدبية؛ وإن كان الاهتمام النقدى والفلسفى بالرمز لم يتبلور إلا فى الحقبة المعاصرة؛ حيث عُرّف الإنسان بأنه (حيوان رامز) مقابل التعريف التقليدي: (حيوان ناطق).



نحن فى حضرة الرمز، فنحن إذن فى حضرة الواقع الإنسانى بسائر أبعاده، ونحن بالدرجة الأولى فى حضرة التجربة الإنسانية الشاملة، تجربة الإحساس والعاطفة والعرفان. ذلك أننا لكى نعرف، لابد لنا من أن نرمز بشكل أو بآخر، ولكى نعبّر عن إحساساتنا وعواطفنا، فذلك يقتضى أيضا أن نمثُل فى حضرة الرمز. ولم يذهب «توماس كارليل» بعيدا حين قال: إن كل ما يحيط بنا ليس سوى رمز غير أن الرمز فى الأدب، وفى الشعر بصفة خاصة؛ ينبغى أن يستند إلى خيال خلاق قادر على ابتكار رموزه الخاصة؛ بدلا من تكرار الرموز المألوفة التى فقدت بريقها الرمزى بسبب شيوعها وتكرارها؛ فالقمر باعتباره رمزا للمرأة الجميلة لم يعد يدهشنا؛ وكذلك الأسد باعتباره رمزا للشجاعة والإقدام.



كيف تستدعى النصوص الدينية والتراثية فى تجربتك الشعرية؟



الشاعر لا يستدعى إلا ما يراه ضرورة فنية لقصيدة بالذات؛ بينما قد يكون عبئا فنيا مخلا فى قصيدة أخري؛ ولعل أبرز مثال ما هوجمت بسببه هو قصيدة (زبرجدة الخازباز)، التى كتب عنها الأستاذ الدكتور سعيد شوقى بحثا مبتكرا صدر فى كتاب مستقل عن هيئة قصور الثقافة 2016، تحت عنوان (نسق إيقاع المعنى فى قصيدة زبرجدة الخازباز). والقصيدة فى مجملها مواجهة شعرية فكرية للتراث العربى الإسلامي، فيما اشتمل عليه من تغييب للعقل واعتداد بالخرافة؛ فلم يكن لمثل هذه المواجهة الحادة أن تتم نجاح وإقناع، إلا إذا تسلحت بلغة مستوحاة من التراث نفسه؛ غير أن الأمر كان على العكس من ذلك فى الثلاثية الشعرية المنشورة عن ثورة 25 يناير تحت عنوان: (إنجيل الثورة وقرآنها)، اللغة هنا مستوحاة من الجو العام الذى أشاعته الثورة بكل ما فيه من هتافات أو شعارات أو خطب ميدانية؛ فكل قصيدة لها معجمها وبناؤها وعالمها الخاص.



تعرض ديوانك (آية جيم) للمصادرة؛ فيكف ترى تأثير المصادرة أو المنع على رواج الأعمال الأدبية؟



يعتقد صغار الكتاب وعموم الأدعياء؛ أن مصادرة العمل الأدبى أو منعه من النشر، أقرب طريق إلى الشهرة؛ ولهذا فهم يتعمدون انتهاك المحرمات (التابو) فى كتاباتهم، حتى تصادر فيطير ذكرها هنا وهناك، ويلح القراء فى طلبها والسؤال عن مؤلفها، الذى سيتحول إلى نجم بين عشية وضحاها! وينسى هؤلاء أن الشهرة التى تأتى عن هذه الحيل زائفة ومؤقتة؛ لأنها ستزول بمجرد الاطلاع على العمل الركيك الغث الذى أثار ضجة فارغة. وهكذا اتجهت مجموعة من أنصاف المواهب فى الآونة الأخيرة إلى اختراق التابوهات (فى الدين والجنس والسياسة)، فى غفلة من النقاد. ولست أشك لحظة واحدة فى أن هذه الموجة المفتعلة مصيرها إلى زوال.



أما عن ديوانى (آية جيم) الذى صدرت طبعته الأولى عن الهيئة العامة للكتاب 1992، وصودر بقرار إدارى غير معلن من رئيس الهيئة وقتها د. سمير سرحان، فقد أعدت نشره بمبادرة من صديقى السماح عبد الله 2008 المشرف على دار التلاقي؛ ومر الأمر بسلام. كان للديوان عنوان فرعى نصه: [أعوذ بالشعب من السلطان الغشيم باسم الجيم]؛ فاعتبروه تجديفا يمس العقيدة؛ ولم يفطنوا لدلالته السياسية! وإذا كان هذا الديوان قد تعرض لحملة شرسة من أقلام مغرضة، قادها الدكتور مصطفى محمود فى صفحته بـ»الأهرام«، بإيعاز من أحد الشعراء الحاقدين؛ فقد حظى فى الوقت ذاته بدراسات نقدية رصينة تفوق ما حظى به أى ديوان آخر من أعمالي؛ ويكفى أن من بين الذين رأوا فيه تجربة طليعية لافتة فكتبوا عنه: (د. سيزا قاسم، د. محمد حماسة عبد اللطيف رحمه الله، د. أحمد درويش، د. محمد سلامة، د. فاطمة قنديل). وغيرهم؛ وأفكر منذ فترة فى نشر الديوان فى طبعة جديدة تضم أهم هذه الدراسات.



أنت متهم بالاستعراض اللغوى والاعتماد على الزخرفة اللغوية فى قصائدك.. فكيف تنظر إلى هذا الاتهام؟



واجهت هذا الاتهام كثيرا، ولم أعد أحفل به؛ لأنى أدرك أن من يوجه هذا الاتهام لم يقرأ من شعرى إلا نماذج محدودة؛ وحتى قراءته لتلك النماذج لم تكن قراءة نقدية واعية بطبيعة اللغة ودورها فى الشعر؛ الذى يختلف اختلافا بينا عن دورها فى الحياة العامة باعتبارها مجرد أداة للتواصل ووسيلة للتفاهم بين البشر.



هناك آراء ترى أن المبدع لابد أن يكون بينه وبين قضايا المجتمع كيمياء.. فكيف أثر اهتمامك بالشأن العام على تجربتك الإبداعية؟



لست مع المؤمنين بأن عصر القضايا الكبرى فى الشعر قد انتهي؛ فلم يعد للشاعر عندهم إلا عالمه الذاتى وهمومه الآنية بتفاصيلها الحميمة؛ وأرى أن هؤلاء يفصلون فصلا تعسفيا بين ما هو موضوعى وما هو ذاتي؛ لأن تجاربنا المعيشة تثبت لنا فساد هذا الفصل التعسفي؛ فنحن نرى كيف أن الكثير من قضايا الشأن العام تتحول داخلنا إلى شأن ذاتى نكابده ويقض علينا مضاجعنا.



ومن هذا المنطلق أتت التجارب الشعرية التى أرقتنى حول الشأن العام؛ وهى تجارب تجسدت فى عدة دواوين؛ منها على سبيل المثال: (مواقف أبى على وديوان رسائله وبعض أغانيه- 2002) .



ظاهرة (البست سيلر): كيف تراها؛ وما رأيك فى غلاف (عالم الكتاب) الذى أثار ضجة بسبب تصدر صورة أحمد مراد وهى الضجة التى كانت سببًا فى تغيير هذا الغلاف؟



أظن أنها ظاهرة طفت على سطح حياتنا الثقافية، ضمن ما يطفو عادة فى فترات الانحطاط أو على الأقل فى الفترات الانتقالية؛ وهى فترات تميل إلى الفن الاستهلاكى السريع؛ الذى يهدف أولا وأخيرا إلى التسلية؛ ولذا يتجلى أثرها فى الفنون الجماهيرية مثل الأغنية؛ حيث تستطيع أية أغنية مبتذلة فى كلماتها صاخبة فى ألحانها- (بحبك يا حمار مثلا)- أن تبيع أضعاف ما يباع من أغانى عبد الوهاب وأم كلثوم.



وقد انتقل الداء من الأغنية إلى الأدب فى غيبة النقد للأسف؛ فأصبحت ترى رواية أحد فرسان البست سيلر تبيع أضعاف ما تبيعه روايات نجيب محفوظ! ولعل الخطأ الذى وقعت فيه مجلة (عالم الكتاب)، هو أنها حرصت على أن تنساق مع التيار وتركب الموجة؛ فكما سعى فرسان البست سيلر للانتشار؛ فلماذا لا تسعى هى أيضا سعيهم؟! ومما زاد الطين بلة أن رئيس التحرير بدلا من أن يعتذر ركب رأسه واتهم منتقديه من الأدباء بالفشل والشعور بالغيرة! وكان الأولى به أن يشعر بالخجل لأن مجلته انساقت وراء الموجة الرائجة، ونسيت رسالتها التقويمية.



عام حكم الإخوان.. هل كان له تأثير على الحركة الثقافية؟



كان المثقفون هم أول من أشعل شرارة الثورة على حكم الإخوان، ولعل الاعتصام فى مبنى وزارة الثقافة وطرد الوزير الإخوانى خير شاهد على هذا.



تجديد الفكر الدينى من القضايا المهمة التى دعا لها الرئيس عبد الفتاح السيسى وبالطبع الشعر والإبداع ليس بعيدًا عن هذه القضية.. كيف ترى تجديد قضية الفكر الديني؟



أراه قضيتنا الثقافية الأولي؛ وأولويته نابعة من أننا لن نتقدم خطوة إلى الأمام بدون تنقية الفكر الدينى من سائر ما علق به عبر التاريخ من خزعبلات وأضاليل؛ انحدرت من فكر ابن تيمية ومن بعده ابن القيم حتى اتخذت صورتها البشعة على أيدى الوهابيين؛ وتم تصديرها إلينا بانتظام منذ السبعينيات فيما عرف باسم الغزو النفطى الوهابي.



لا بد لنا من مواجهة الأمر بشجاعة، حتى نستطيع (تنقية) تراثنا الدينى من كل هذه الأضاليل؛ وأنا أفضل مصطلح (التنقية) عن مصطلح التجديد.



هناك كُتاب استغلوا فترة الحظر فى إكمال تجارب إبداعية لهم والانتهاء منها.. فكيف قضيت فترة العزلة الخاصة بكورونا وهل لك طقوس معينة عند الكتابة؟.



بالنسبة لى كان الأمر مختلفا، فقد تزامن وباء الكورونا مع فترة مرض العينين؛ فكأنى أصبحت (رهين المحبسين) بالوباء أو بدونه.