عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
الثقافة والإعلام.. علاقة شائكة
4 أكتوبر 2020
ليلى الراعى


كنت أجلس فى عيادة طبيب الأسنان أنتظر دورى.. ولأن الانتظار يطول فى أحيان كثيرة لساعات، اضطررت رغماً عنى أن أشارك الحضور فى مشاهدة التليفزيون.. ووجدتنى أمام برنامج ثرثرة تافه تقدمه مذيعتان شقراوتان ترتديان ملابس لافتة ومعهم ممثل شاب سطع نجمه فى الآونة الأخيرة.. وتبارى الثلاثة فى إسداء الحكم والنصائح لنا نحن المشاهدين التعساء وعرض آرائهم فى الزواج والطلاق وفى كل مناحى الحياة.. وبين كل جملة وأخرى تجلجل ضحكاتهم الصاخبة.. بدأت أشعر بالانزعاج وبالرغبة فى غلق التليفزيون أو على أقل تقدير تغيير المحطة..وعندما أبديت امتعاضى من البرنامج، اندهش الجميع وقالت جارتى فى حماسة: ده برنامج لطيف جداً! وإزاء هذا الحكم الواثق التزمت الصمت، ورحت أتساءل بينى وبين نفسى: لماذا أشعر بالانزعاج؟ الناس مبسوطة من البرنامج.. ألا يكفى هذا؟ ثم عدت أتساءل ثانية: لماذا لا يستغل التليفزيون إمكانياته وميل الجمهور الفطرى له ويعرض برامج أكثر جدية من تلك البرامج التافهة التى يقدمها لنا؟ لماذا لا يقدم مواد ثقافية جذابة تسهم فى رقى وعى المجتمع؟ ألا يحق للمشاهد أن يتعرف على الفنون الراقية التى تزوده بالثقافة مثلما يشاهد كل هذا الكم من المنوعات التافهة والأغانى الهابطة والمسلسلات العقيمة؟



فى الحقيقة يخطئ كثيراً من يظن أن الثقافة الرفيعة (القراءة - المسرح - الموسيقى - الباليه - الأوبرا.. إلخ) تعد ترفاً فى حياة الشعوب.. فالثقافة هى التى تشكل وعى الفرد.. هى التى تجعله يدرك ماذا يدور حوله فى العالم.. فى السياسة والاقتصاد والفن.. فى كل أمور الحياة.. إنها ليست بعيدة عن كل ما يحدث فى عالمنا، لأنها ببساطة شديدة تتيح له أن يفهم، ويكون رؤية واضحة لكل مايدور حوله من أحداث وتطورات.. بل وتتيح له أيضاً بلورة استجابات مناسبة لتحديات مختلفة يفرضها علينا عالم مضطرب.. فلا يصبح من القطيع السهل قيادته والتحكم فى رأيه.



وللوصول إلى هذه الدرجة من الوعى الثقافى ينبغى علينا أن نغرس فى أطفالنا منذ سنواتهم الأولى المبكرة حب القراءة.. الاهتمام بالموسيقى.. والرسم.. والرياضة.. نغرس فى نفوسهم كل تلك الهوايات التى تنمى شخصياتهم وكيانهم.. ولكن للأسف الشديد هذا لا يحدث فى مدارسنا.. فكل حصص الهوايات والمهارات تم التخلص منها والاكتفاء بحفظ ومذاكرة المناهج المقررة.. والنتيجة أننا أمام تلاميذ محدودى الأفق.. بالكاد يحفظون دروسهم كى ينالوا درجات النجاح.. وتلك برأيى بداية الأزمة.



كثيرا ما أشعر بالظلم الواقع على كاهل الثقافة بالمقارنة بوضع الإعلام.. الثقافة بروافدها المختلفة تبدو فى نظر البعض متجهمة.. صعبة.. تحتاج إلى جهد لمتابعتها.. لا تملك شعبية.. بينماالإعلام - وفى مقدمته التليفزيون ثم الصحف والمجلات - بما يبثه من منوعات ومسلسلات وأفلام وحفلات وفى أحيان كثيرة برامج ومواد سطحية يتمتع بجاذبية خاصة تروق للعامة التى تشكل القاعدة الأساسية للجماهير العريضة.



تعانى الثقافة هذا المأزق: تقدم أعمالا جادة وقيمة لكن الجماهير لا تلتفت إليها ولا تعيرها اهتماما إلا فيما ندر. المشكلة قديمة فى الحقيقة..كثيرا ما نوقشت على الساحة.. ولكن بقى الحال على ما هو عليه.. ليظل السؤال يطرح نفسه باحثا عن إجابة: كيف نتيح الثقافة للجماهير، فتصبح قريبة من النفوس والعقول؟ كيف نقرب المسافات بين الثقافة والإعلام؟ لماذا تسود هذه العلاقة التنافسية بينهما مع أنهما يكملان بعضهما البعض؟



وفيما يتعلق بعلاقة الثقافة بالمجتمع نميز في العادة بين جانبين: الانتاج والاتاحة. الجانب الأول يتعلق بقدرة المبدعين في المجتمع على انتاج أعمال فكرية وفنية متميزة. والجانب الثاني هو الامكانات المتاحة أمام الجمهور العام للوصول إلى هذا الانتاج الثقافي. سبل الاتاحة كثيرة ومتنوعة ولكن أكثرها تأثيرا هو التليفزيون.



لابد أن نعترف هنا أن التليفزيون يدر أرباحاً كبيرة من الإعلانات التى يبثها، وهو لهذا السبب تحديداً يبحث عن البرامج التى تنال إعجاب الجمهور ولا يهتم كثيراً بالمضمون إن كان جاداً أو تافهاً. ما العمل إذن؟ كيف تجد البرامج الثقافية مكاناً لها وهى لا تحظى بنسبة كبيرة من المشاهدة؟



نذكر على سبيل المثال تجربة فرنسا التى حققت نجاحات كبيرة..إذ كثيراً ما تمول دور النشر البرامج الثقافية في التليفزيون التي تعرض للكتب التى قامت بنشرها من خلال ضيوف ونقاد وصحفيين.. بهذه الطريقة تسوق للكتاب وتقدم فى الوقت نفسه خدمة ثقافية للجمهور..الأمر يحدث كذلك مع المسرحيات والأفلام والمعارض الفنية.. إلخ. هى وسيلة إذن لاستقطاب الجمهور ودفعه لشراء الكتاب أو الذهاب إلى المسرح أو دور السينما كما أنها فى الوقت نفسه خدمة ثقافية..هناك أيضاً دعم الدولة وتقديم العون والتمويل والذى يأتى بطرق مختلفة منها إنشاء قنوات ثقافية تقدم أفلاماً مميزة ومسرحيات وحفلات الأوبرا إلخ.. فالتليفزيون إلى جوار وسائل الإعلام الأخرى يستطيع أن يقدم الكثير للثقافة لما له من تأثير كبير على الناس.. يستطيع أن يجعلها تدخل كل البيوت وتصبح قريبة من العامة بدلاً من بقائها فقط فى قاعات الندوات والمؤتمرات وصالات المسارح.. الثقافة ليست ترفاً ياسادة بل ضرورة.. وهى كما قال يوماً كاتبنا الكبير يوسف إدريس: الثقافة أخطر من أن تكون من كماليات الحياة.. أليس كذلك؟