أتابع باستمرار وسائل التواصل الاجتماعي، ولكنى أحاول السيطرة عليها حتى لا تستنزف وقتى فيما لا طائل منه فهى قادرة على ذلك بما تلملمه من أصقاع وأعماق الدنيا، ومن بين ما وقع مصادفة تحت نظرى فقرة لفنان معروف ينتقد بشدة إحدى المذيعات ويتهمها بأنها خرابة البيوت! ووجدت اسمها يتردد عند بعض معارفى مدحا وقدحا، فتابعت بعض ما تقول ويصب أغلبه فى تقوية النساء ضد ظلم الرجال!
وأعتقد أن الثورة ضد الظلم لا يدينها عاقل ولكن يجب تحديد المعانى لمعرفة الطريق، فالعلاقات الإنسانية تحتاج جهدا وجدانيا وعقلانيا لابد من الاجتهاد فيه لإقامة علاقة قابلة للاستمرار، وهى لا تحدث فجأة، ولكنها عملية تبدأ بالإعجاب فالانجذاب فالارتباط، وهى المرحلة الكبرى التى يشكل فيها الزوجان قمة مراحل الحب فى الوعى واللاوعي، ويغذى كلاهما الآخر، فيصبحان كيانا واحدا، يتلاشى فيه «الأنا» و«أنت» ويبقى «نحن» فقط، وعندما يغذى العلاقة طرف واحد ويستمرىء الآخر الأخذ دون العطاء، يدفع الطرف الآخر للمقارنة، ويدرك الظلم الواقع عليه فيخرج من حالة الحب مستعوضا الله فيما أعطي، فهناك مرحلة طويلة من البناء قبل أن يقرر أحدهما كسر عصا الطاعة، وإظهار عين الكراهية الحمراء، فليس من المجدى أن نشجع النساء على خراب ديارهن بلا رؤية أو جهد صادق، بينما المذيعة كانت على النقيض من الإعرابية التى نصحت ابنتها فى ليلة زفافها، بأن تكون له جارية ليكون لها عبدا!
الارتباط قدرة لا يعطيها الله إلا للموهوبين الذين قدرهم الله من الخروج من الأنا السفلى ــ عند فرويد - حيث الأنانية والغرائز البهيمية، إلى الذات العارفة أن الارتباط بالآخرين وأولهم شريك الحياة يحتاج إلى عطاء مستمر وصبر وذكاء لتطوير العلاقة، لتحقق السعادة التى لا توجد بأى حال فى العزلة ولو فى الجنة! الحفاظ على الروابط الإنسانية فطنة العارفين!
ومع ذلك لا نستطيع أن نحمل المذيعة ما لا تحتمل فهى ليست بحال من الأحوال خرابة البيوت، فالعقول هى الخربة، وتصل لنتائج سريعة بجهد ضعيف بسيط، فترضى التافهين الذين يتصورون أنهم بذلوا ما يكفى من عناء!
من مزايا الحرية التى تكرسها وسائل التواصل الاجتماعى والمواقع على الإنترنت، أنها تصلح نفسها بنفسها، وفساد المنطق تكشفه تعليقات الناس وردود الفعل على الفضائح الفكرية التى تعشش فى الأذهان، مثل رأى نفس المذيعة فى إدانة خلع الحجاب، كأنها وصية على الناس ليفعلوا ما لا تفعل هى فهى ليست فقط غير محجبة بل متبرجة لأقصى درجة، يقوم برنامجها على كيفية التبرج بالزينة والأزياء والمساحيق! فوصل نفاقها إلى درجة الفضيحة حيث تقول ما لا تفعل وتصف العبرة فلا تعتبر، وتنهى ولا تنته، وتأمر بما لا تأت به! فغواية لفت الأنظار دون منطق أوقعها فى فضيحة النفاق والرياء والمداهنة. زى الإنسان يدخل فى نطاق الحرية الشخصية التى تكفلها الأخلاق عامة، بإقرار حرية التعبير، والملابس جزء من تعبير الإنسان عن نفسه بالطريقة التى يراها منسجمة مع ذاته، وفق رؤيته الخاصة التى قد تنبع من منطلقات دينية أو اجتماعية أو جمالية، على ألا يجور على حقوق الآخرين بأن يؤذيهم من اختياره، بأن يخرج عليهم مجهولا لا يعرفونه، أو عاريا فاضحا، بغير ذلك لكل أن يعبر عن ذاته وفق معتقداته، ولا يحق للآخر أن يفرض نفسه وصيا عليه، وهذا ما يجعلها قضية غير محسومة وجدالية، لأنها فى الحقيقة لا تخص إلا صاحبها فى تعبيره عن ذاته!
تظهر تلك الحقيقة فى الحملة الحضارية التى تقودها بنات ونساء مصر الفضليات العفيفات ضد التحرش، رافضات تحميل الضحية مسئولية الجناية التى وقعت عليها، لأى سبب من الأسباب، ومن بينها فتنة الملابس، فواجهن أس الفساد وهو إباحة العدوانية، من شخصيات مريضة تعانى إحساسا دفينا بالتفاهة وقلة القيمة فيداوون مرضهم بالرغبة فى الاعتداء،محتمين بخوف الضحايا من الفضيحة، وفضيحة الفيرمونت تجسد ذلك، إلا أن حضارتنا العربية القائمة على التعارف والتبادل، استفادت من الحملات الأجنبية ضد المنحطين المتحرشين، وقامت بناتنا الشجاعات بسحب سلاح الفضيحة من يد المعتدى لتضعه فى يد الضحية وأصبح المجرم يبحث عن فضيحة لنفسه، بدلا من ضحية خائفة من الفضيحة!
ردود الأفعال الغاضبة فى الرأى العام من قصور الإدراك فى سطحية المذيعة أو إجرام المتحرشين تنم عن زيادة الوعى ونضج الإدراك، ضد الظواهر السلبية، لمجرمين فشلوا فى تكوين ذاتهم وخلق قيمة اجتماعية معترف بها، حتى لو انتفخت عضلاتهم وجيوبهم، فليسوا إلا أجنة فى بطون أمهاتهم حسب تعبير (سارتر)، عالة على ذويهم ومجتمعهم، وبدلا من البحث عن قيمة لحياتهم تشفى دناءتهم توجهوا للبحث عن فضيحة، لم يعد الوعى العام خائفا من مواجهتها، فى سبيل الحرية الحقيقية التى خلقت من أجلها كل الروابط الاجتماعية!