عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
مركب النجاة!
25 سبتمبر 2020
يكتبه أحـمــد البــــــرى


أكتب إليك قصتى بعد معاناة طويلة، ولا أرى لها نهاية، فأنا سيدة أبلغ من العمر ثلاثة وثلاثين عاما، وأم لأربعة أطفال أكبرهم فى المرحلة الإعدادية، وقد نشأت فى أسرة لها وضع خاص، إذ وجدتنى وسط أمى وشقيقتين، أما أبى فمتزوج من سيدة أخرى كانت ومازالت سبب عذابنا حتى هذه اللحظة، وعملت أمى فى وظيفة مستقرة، وكرّست حياتها من أجلنا، ولم تكن تعلم شيئا عن زواج أبى بأخرى، حيث يقيم معها فى سكن آخر، حتى فرضها علينا، وأصبحت تأتى فى منزلنا، ولم يكن بيد أمى حيلة، فاستسلمت لهذا الوضع بسبب تهديد أبى لها بأنه سيأخدنا للمعيشة معه فى بيته الآخر، ويحرمها منا وظلت معيشتنا شقاء وضربا وإهانات لأمى، وشعرت بآلامها الصامتة، وتوجعها وحسرتها على حالها، ولم يقف أحد من أهلها بجانبها.



وتجاهلنا أبى، وكأننا لسنا بناته، وتركز اهتمامه على تلك السيدة التى أنجب منها ولدا، وصارت حياتنا جحيما وكبرنا، وبلغت الثامنة عشرة من عمرى، وتقدم لى عريس حاصل على الثانوية العامة، ولم يكمل تعليمه، وكنت وقتها فى الجامعة، ومستوانا الفكرى مختلف تماما، لكنى وافقت عليه، متخيلة أنه «مركب النجاة» من ظلم أبى، وتزوجته وأنا أتطلع إلى حياة مستقرة خالية من المنغصات والأعاصير التى تواجهها أمى بلا توقف، ولكن الرياح تأتى بما لا تشتهى السفن، فبعد فترة اكتشفت أن زوجى يعانى مرضا وراثيا عبارة عن وسواس قهرى، وكهرباء زيادة فى المخ، ومع ذلك عشت وتعايشت مع الظروف التى وجدتنى فيها، فجحيم أبى مازال أمام عينىّ، ويطاردنى فى كل لحظة، وقد حملت بأولادى برغم موانع الحمل، وهم رزق من الله، وهذه مشيئته، ولا رادّ لقضائه، وزادت حياتى سوءا وشكا وإهانات ليس لها أول من آخر، وبعد أن استنفدت كل السبل لإرضائه، ولم أجد سبيلا للاستقرار معه، قررت أن أنفصل عنه، وأولادى على علم بما أتعرض له، فكل شىء أمامهم، وقد أيدونى فى موقفى، وهكذا تكررت تجربة أمى معى، حيث أعمل وأتحمل نفقات أبنائى، مثلما تحملت أعباءنا.



وشددت الرحال إلى أبى، والأمل يحدونى فى أن يكون ظهرا لى، ويؤازرنى فى محنتى، والحال التى وصلت إليها مع زوجى، وقلت له إننى أريد أن أنفصل فى هدوء، وأن آخذ أبنائى معى، وأواجه حياتى بعيدا عن هذا الرجل، فلم يمانع، وإذا بى أفاجأ بأنه رفع ضده دعوى أمام المحكمة موجها اتهامات عديدة إليه، وخشيت أن يحدث له مكروه، فهو والد أبنائى، وأى ضرر يمسه سوف يكون مردوده سلبيا عليهم.. صحيح أن ما فعله معى صورة مكررة من ظلم أبى لأمى، لكنها استسلمت للأمر الواقع، والفارق بينى وبينها أننى لا أريد الاستمرار على ذمة هذا الرجل، وتنازلت عن الدعوى، بل وجميع حقوقى فى مقابل أن أعيش فى هدوء، ولم يعجب أبى ما أقدمت عليه، فضربنى أنا وأمى، وسبنا بأسوأ الألفاظ، ومنع أولادى الكبار من المبيت معى، وهددّنا بأنه لو عاد، ووجد أحدا منا فى البيت سيقتله، وغادرنا وهو فى قمة الغضب بلا سبب، فهذه هى طريقته التى لم تتغير، وتركنا لمدة عام، لكن تهديداته لنا لم تتوقف عن بعد!.



لقد تزوجت إحدى أختىّ، وتحيا مستقرة مع زوجها، أما أنا فأعيش مع أمى، وأختى الثانية وهى فى سن الزواج، وعلى صلة بأبى، وعندما تزوره يطلب منها نقودا بدلا من أن يساعدها فى تجهيز نفسها، ويرسل إلينا من خلالها رسائل تهديد بأنه سيحرمنى من أبنائى، ووالدتنا كبرت فى السن، وكل من حولنا من أعمام وأخوال يرفضون التدخل لحل مشكلاتنا معه، والتى طال أمدها بحجة أنه سليط اللسان، غليظ القلب، ويا لها من حياة قاسية، فطوال خمسة وثلاثين عاما هى عمر زواجها من أبى لم تذق طعم الراحة، وتحمّلت كل صنوف العذاب، علاوة على مسئولية ثلاث بنات، وقد صرفت علينا كل دخلها، وتخرجنا فى الجامعة، وزوّجت اثنتين منا، وتتبقى الثالثة، ولك أن تتخيل حالنا، وصورتنا فى أعين الجيران، فهم على علم بكل كبيرة وصغيرة فى حياتنا.. وكلهم يتحدثون عن أبى، ويستغربون موقفه، وما فعله بنا، وطلاقى من زوجى، وصرنا فى أعين الجميع أسرة مفككة، وبلا رجل يحمينا، فى الوقت الذى يعيش فيه أبى مع زوجته الأخرى وابنه منها، ولا يرى أحدا سواهما، والعجيب أنه يتهمنا بالعقوق، ولا أدرى عن أى عقوق يتحدث؟.. إننى لا أتذكر أنه عاملنا بحنان، ولو مرة واحدة، ولم نر منه أى لين، حتى عندما انسدت جميع أبواب الدنيا فى وجهى، لجأت إليه، فإذا به يحاول أن يؤذى والد أبنائى، ومازلت أتذكر يوم أن قررت الانفصال أن زوجى قال لى: «هتروحى لأبوكى، هيبهدلك وهتلفى وترجعيلى زي...»، وقد بهدلنى بالفعل، لكنى آثرت أن أن أتحمّل تبعات قرارى، فمهما تكن قسوتها، فإنها لن تكون فى شدة عودتى إليه!.



وعندما قررت أن أستأجر مكانا وآخذ فيه أولادى رفض أبى، واتهمنى بأبشع الاتهامات، مع أننى لم أفكر فى السكن بمفردى، وكانت أمى ستنتقل للعيش معى، وقد خشيت على أولادى منه، إذ يمارس أسلوب البلطجة هو وابنه فى كل شىء، فبعث وأخذ عقد إيجار الشقة التى نقيم فيها، وهى بنظام «الإيجار القديم»، وقد اتصل بأختى، وهددنا أن أمامنا مهلة لمدة شهر لكى نخلى الشقة، وقال عن أبنائى إنهم «ولادى مش ولاده، ولا يعرفهم ومحدش فيهم هيتربى فى بيته».. مع أنه هددنى بالتنكيل بى لو استأجرت شقة خاصة بنا!.



لقد انقطعت علاقتى بمطلقى، أما ما يخص أبنائى، فإنه يتواصل مع والدتى، ويرسل مبلغا ضئيلا كنفقة لهم، وهو لا يكفيهم بضعة أيام!.



وإذا كانت للآباء حقوق، فأين حقوق الأبناء؟، وأى أب هذا الذى يرمى ثلاث سيدات وأربعة أطفال فى الشارع، وهم لا حول لهم ولا قوة، فماذا نفعل؟، وبماذا تشير علينا؟.



 



ولكاتبة هذه الرسالة أقول:



 



لقد غاب عن أسرتكم العدل والمودة والرحمة منذ زواج أبيك بأخرى، فتوالت المتاعب التى مازلتم تتجرعون مرارتها، فالزوج الذى يخاف الله ويخشى ألا يكون عادلا، لن يغش زوجته، ولن يبخل عليها أو يقسو، وأيضا لن يؤذيها، فلا وجود للعنف فى قاموس البيت الذى يعرف فيه رب الأسرة حقوقه وواجباته، وكذلك الأمر بالنسبة للزوجة، فهى إن قدّرت ظروف زوجها، وكانت عادلة فى الحكم على تصرفاته، وتقدير حاجاته وتفهّمها، فإن مشكلات كثيرة ستزول ولن تستمر.



لقد غاب عن أبيك أن يعدل بينكن وبين أخيكن بدءا من النظرة، وصولا إلى العطاء والهدية، إلى جانب الرعاية، والاهتمام، والحب، والتشجيع، والمكافأة، وإدخال الفرح والسرور، وتبادل الحديث معكم، حيث يقول رسول الله: «إنَّ الله يحب أن تعدلوا بين أولادكم، كما يحب أن تعدلوا مع أنفسكم»، فالتمييز بين الأبناء فيه إخلال بكيان الأسرة، وتماسكها وترابطها، فالبنات يشعرن بالغبن داخل الأسرة من أبيهن أو أمهن، وقد يتحول عندهن هذا الشعور إلى حقد دفين تجاه من عليه واجب احترامه وتقديره والإحسان إليه، وعلى أخيهن الذى يكون قد أخذ حقا لهن، وهذا ما حدث لكن على مر السنين بسبب أبيكن الذى لم يقدر أنكن بناته، وأن ما يؤذيكن، سوف ينعكس بالضرورة على الأسرة كلها، بل وعلى أخيكن أيضا.



وكان من نتيجة صنيعه أيضا، ما فعله زوجك معك، فلقد اتخذ أباك مثلا له، فلجأ إلى ضربك والتنكيل بك، وهو يدرك أنك لا حول لك ولا قوة، ولو أنه وجد اهتماما من أبيك منذ البداية، لما جرؤ على معاملتك بشكل فظ، وإنى أسألك: كيف أنجبت أربعة أطفال، وأنت تجدين منه معاملة سيئة، بل وبرغم اكتشافك أنه يعانى أمراضا نفسية مزمنة انتقلت إليه بالوراثة؟.



إنكم جميعا تعانون حالة تخبط شديدة، ولابد من الإمساك بزمام الأمور، والاحتكام إلى العقل، ووضع النقاط على الحروف، وأن يعى والدك أن أى خطوة سيقدم عليها ضدكن ستنال منه شخصيا.



وعلى جانب آخر فإنه عندما أخذ منكن عقد إيجار الشقة، ولوّح بأنه سيطردكن إلى الشارع، إنما يعبث بالورقة الأخيرة التى تحفظ وجوده بينكن، ولا أدرى ما الذى سيستفيده إذا طردكم من الشقة، أو سلم عقد إيجارها للمالك نظير مبلغ ما؟.. إن عليه أن يحذر من العواقب الوخيمة التى سوف تنعكس على الجميع، وإنى أدعوه إلى العدل بينكن وبين أخيكن، وأن يعامل والدتك وهى زوجته، كما يعامل زوجته الثانية، وأن يذيب حالة الجفاء التى صنعها، وأن يعلم جيدا أنه لا يجوز لأحد أن يسير مع عواطفه فى معاملة أبنائه، فيكرم أحدهم إكراما زائدا، ويهين الآخر، إذ أن النتيجة هى أنه سوف يدبّ بين الإخوة داء الحسد والحقد والمعاداة، فتتمزّق روابط العائلة، وتنصرف الجهود إلى التخريب، وتتحول العواطف النبيلة، إلى مكر وبغض وشماتة وما إلى ذلك.



ولقد قصّ الله علينا فى سورة يوسف - عليه السلام – فأنبأنا أن كل ما لاقاه يوسف من عذاب ومعاناة وأتعاب كان نتيجة لما أظهره والده نحوه ونحو أخيه من عطف زائد ألهب قلوب إخوته حسدا وكراهية له، إذ يقول تعالى: «إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِى ضَلَالٍ مُبِين اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ» (يوسف: 8، 9)



والأنكى من هذا هو ما يترسب فى نفوسنا من تكريم الذكور على الإناث، وتمكينهم أكثر مما خولهم الله تعالى من حقوق، وهو ما يجب أن يتجنبه أبوكن، ويتقى الله فيكن، فللعدالة الأسرية أثر فى تنشئة الأسرة، وينبغى التعاون بين الزوجين فى شئون الحياة، وتدبير أمور البيت، وأن يعيش الجميع فى جو متبادل من الود والتعاون، والاحترام والعدالة فى إعطاء المشاعر، ومراعاة الآداب بين أعضاء الأسرة، ومن اللازم الحفاظ على استقرار الأسرة، وإبعادها عن جميع عوامل القلق والاضطراب.



والأب ليس مسئولا عن الحياة الاقتصادية وتوفيرها لأبنائه فحسب، وإنما مسئول أيضا عن تربيتهم، وتهذيبهم، وتأديبهم، وتوجيههم الوجهة الصالحة، وأن يعوّدهم على العادات الطيبة، ويحذّرهم من العادات السيئة.



وعلى الأب إذا أراد أن يكون أبناؤه قرّة عين له فى مستقبله، أن يطبق على واقع حياته الصفات الكريمة وأن يسير مسيرة طيبة ليكون قدوة حسنة لأهله.



إن ما يفعله والدكن من تضييعكن وعدم الاهتمام بأموركن ومصالحكن وتربيتكن مخالف لأوامر الله لقوله تعالى: «يُوصِيكُمُ اللّهُ فِى أَوْلاَدِكُمْ» (النساء:11)، فالأبناء عند الآباء موصى بهم، فإما أن يقوموا بتلك الوصية، وإما أن يضيعوها فيستحقوا بذلك الوعيد والعقاب.



وإننى أهيب بأعمامكن وأخوالكن أن يتدخلوا لوضع الأمور فى نصابها الصحيح معه، وعليه أن يستجيب لصوت العقل والحكمة، وأن يتخلى عن عناده معكن، وإلا فإنه سوف يحصد صنيعه المر، وعلى مطلقك هو الآخر أن يراعى الله فى تربيته لأبنائه وأن يتواصل معهم بترتيب الأمر معك.



وفى كل الأحوال يجب أن نحمد الله، فحين يجرى المرء مقارنات رابحة مع من هو دونه صحة وأولادا وأموالا وقدرات، فإنه يزداد اطمئنانا وسعادة، ويمكن القول إن تنمية الأدوار داخل الأسرة وأداء كل فرد واجباته، يجعل الأبناء يشبون أسوياء، مستقلين، ومعتمدين على أنفسهم فيسعدوا وتسعد الأسرة، وهذا هو مفتاح السعادة والرضا.. أسأل الله الهداية للجميع وهو وحده المستعان.