عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
اعتبار المآلات وصورة الإسلام الحضارية
25 سبتمبر 2020
د. شوقى علام مفتى الجمهورية


رسم النبى صلى الله عليه وسلم لعلماء الأمة المعالم الواضحة فى الوقوف على أسرار التشريع وتعليل الأحكام وبيان أسبابها بما يفيد مرونة الشرع الشريف ومسايرته لكل عصر ومصر بما فيه سعادة الخلق وحفظ مصالحهم.



إن شريعة الإسلام غير محصورة فى دائرة نصوص معدودة كأنها مواد جامدة؛ بل دائرتها واسعة ومساحتها رحبة، تنوعت فيها المصادر التشريعية تنوعًا كبيرًا ومنضبطًا؛ بما أفسح المجال لعمل العقل الاجتهادى منذ عهد النبى صلى الله عليه وسلم ثم الصحابة الكرام رضى الله عنهم ومَن بعدهم من المجتهدين والعلماء فى التعامل مع مختلف المستجدات والقضايا لبيان أحكامها الشرعية فى ضوء هدى نصوص القرآن والسنة التفصيلية ومقاصدها، مع مراعاة لحركة التطوُّر التى تشهدها المجتمعات الإنسانية فى كل زمان ومكان.



نعم، لقد انطلق علماء الأمة ومجتهدوها عبر القرون من السبيل التى سلكها رسول الله صلى الله عليه وسلم فى عملية الاجتهاد، خاصة فى تعليل الأحكام وتوسعوا فى ذلك، فتارة نجدهم يستنبطون للأحكام المنصوص عليها عللًا ويوسعون دائرتها بما يبدو لأول وهلة أنهم قد خالفوا بها حكم الله تعالى، ولكنهم بدقة نظرهم علموا أن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، ومن ثمَّ يتغير لتغير علته بما يحقق مرونة الشريعة الإسلامية بصورة عامة ويرفق بالناس ويحقق مصالحهم.



ومن أبرز الأدلة على ذلك: عدم معاقبة الصحابى الوليد بن عقبة (المتوفى سنة 61 هـ) على سُكْره وقد كان أميرَ الجيش فى حرب من حروب المسلمين على أرض الروم على عهد سيدنا عثمان بن عفان رضى الله عنه، حيث قال الناس لأبى مسعود، وحذيفة بن اليمان رضى الله عنهما: أقيما عليه الحد، فقالا: «لا نفعل نحن بإزاء العدو، ونكره أن يعلموا، فيكون جرأة منهم علينا، وضعفا بنا» (مصنف عبد الرزاق)، فقد ظهر من المطالبة بمعاقبته انطلاق المطالبين من المعارف العامة والثقافة الشائعة التى تقرر أن الحدود إذا ثبتت تطبق، دون مراعاة للاعتبارات الشرعيَّة الأخري، فلما بيَّن الصحابيان أبو مسعود وحذيفة رضى الله عنهما أن الأمر له بُعْد آخر مهم سلموا لهما وأذعنوا، وهو (فقه المآلات) الذى يقرر أن معاقبة الوليد - وهم فى حالة الحرب ولقاء العدو - ستكون مدخلًا لطمع العدو فيهم وإظهار ضعف هيبة الجيش أمامه.



وهذا الفهم الراقى فى تعليل تأخير تنفيذ العقوبة لم يخالف نصًّا ولا إجماعًا ولا قياسًا، بل فيه دفع لمفسدة عن الأمة وجلب لها مصلحة راجحة ترجع إلى إظهار قوة المسلمين وتماسكهم؛ فضلا عن شهود الشرع الشريف له بالاعتبار حيث دلت النصوص والأدلة صراحة على جواز تأخير إقامة العقوبة لعارض كالحمل أو السفر أو المرض ، أو لضرر بسبب حر  أو برد.



كذلك موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم من قيام رمضان (التراويح)، حيث امتنع عن قيامها فى جماعة مبينًا سبب ذلك وهو الخوف من أن تفرض على الأمة، وقد أذعن الصحابة رضى الله عنهم لهذا الأمر، لكن الفاروق عمر رضى الله عنه أقامها فى جماعة وجمع لها الناس بناء على زوال سبب المنع بانقطاع الوحي، ولاعتبار فقه المآلات ودفع مفسدة أنه ربما جاءت أجيال متهاونة فى قيام شهر رمضان الفضيل، فضلا عن تحقق مصالح الأمة من خلال ما تشعر به إقامة الجماعة من توحيد الصفوف ووحدة الأمة وجمع كلمتها، ومنعًا من التشويش والتفرق.



فمثل هذه الاجتهادات الفقهية التى سلك بها أصحابها مسالك التعليل أصوليا وفقهيا، والتى قد تبدو مخالفة فى ظاهرها لبعض النصوص الشرعية، تؤكد أهمية فقه المآلات وضرورة اعتباره فى الاجتهاد والاختيار الفقهى، خاصة فى المسائل والوقائع التى جدَّ ما يدعو إلى تغير حكمها، نظرًا لتغير العوائد والأعراف، أو اختلاف الواقع، وبما يرفق بأحوال الناس ويوافق أعرافهم وعاداتهم ويناسب مقتضيات العصر.