عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
القارب المفتوح
11 سبتمبر 2020
ستيفن كرين ترجمة ــ د. هويدا صالح


حين واجه أربعة من الرجال مخاطر الموت بعد أن غرقت السفينة التى كانوا يركبونها، اضطروا إلى النزول إلى قارب نجاة صغير. كان القارب ينحدر بسرعة نحو أعماق المحيط الأطلنطي، ثم يعود ليقفز فوق الأمواج، ولشدة ارتفاع هذه الأمواج لم يتمكن الرجال الأربعة من رؤية السماء. عيونهم لا ترى سوى الأمواج التى اجتاحتهم، بألوانها الإردوازية المتداخلة ورغوتها البيضاء وحوافها الحادة الخشنة. عيونهم لا تتمكن من رؤية ما وراءها، والأفق يضيق أمامهم ويتسع، مع لونه الوردي.



حين ركبوا هذا القارب، لم يتصوروا أن الواحد منهم يمكن أن يقف على قدم واحدة فيه براحة، فهل يتحمل قارب نجاة يشبه حوض استحمام صغير كل هؤلاء؟!.



كانوا يعتقدون أن كل موجة قادمة تجاههم هى الموجة الأخيرة من تلك الأمواج المتلاطمة، فيظن الواحد منهم أنه حتما سيغرق فى عمق المحيط، فهذه الأمواج البربرية والمتوحشة تعادى القوارب الكبيرة، فما بالهم بقارب صغير على متنه أربعة من الرجال يصارعون منذ أن غرقت سفينتهم للوصول إلى الأرض!.لكن لا أرض هناك تظهر فى الأفق. والأمواج تتقاذفهم صعودا وهبوطا. جلسوا فى قاع القارب وتساءلوا: هل ثمة أمل فى النجاة؟!.



أحد الرجال الأربعة هو طاهى السفينة. كان يجلس القرفصاء فى قاع المركب، يحدق بشدة فى الخمسة عشر سنتيمترا التى تفصله عن المحيط. يحدق دون أن يفعل شيئا. كان بالقارب مجدافان فقط، مجدافان رفيعان للغاية، حتى إنهما يشبهان آلة للقطع. والرجل الآخر هو بيلى أحد البحارة الذين نجوا مع قبطان السفينة. قام بتوجيه حركة القارب بواحد من المجدافين. ساعده المراسل الصحفى الناجى الثالث الذى سحب المجداف الآخر ونظر للأمواج العاتية بتعجب، وهمس: «لماذا أنا هنا؟!».



فى حين استلقى قبطان السفينة فى مقدمة القارب الصغير.أصيب فى ذراعه وساقه لحظة غرق السفينة. كان وجهه حزينا، فلم يفقد سفينته فقط، بل فقد معظم بحارته. نظر نحو بيلى وهمس: «فقدت كل بحارتى إلا بيلي». رغم ألمه وحزنه إلا أنه كان يراقب حركة القارب، ويوجه بيلى لإدارته بحذر حتى لا يتعرضوا للغرق. قال له فى وهن: «دُرْ بالقارب إلى الجنوب قليلا يا بيلي»



كرر البحار: «إلى الجنوب قليلا يا سيدي؟».



فكر بيلى وهو يدير دفة القارب، كما أمره القبطان، فى مغامرة توجيه قارب صغير وسط أمواج متلاطمة، فهو كالجالس فوق ظهر حصان وحشي؛ ومع كل موجة عاتية يقفز القارب ويهبط مثل حصان ينطلق نحو السياج العالى جدا للقفز. المشكلة أنه كلما نجوا من موجة عالية وجدوا أخرى تندفع بقوة لأعلى لتطيح بمركبهم!. واصل بيلى عمله، وحاول إدارة القارب بحرص ولم ينطق بتلك الجمل المجازية التى وصف بها رحلة مركبهم الصغير وسط عاصفة من الأمواج التى كانت تنهض مثل جدران عالية أمام المركب، والرجال الأربعة يحدقون ولا يرون شيئا.



تنهض الأمواج فى صمت بقممها البيضاء، ثم تحيطهم بضجيج عال. وجوه الرجال رمادية فى الضوء الخافت، وعيونهم تحدق بدهشة وقلق وهم يحاولون النظر للبحر فى محاولة لرؤية ما وراءه.



أخيرا ارتفعت الشمس ببط من وراء الأفق، توسطت السماء. أدرك الرجال أن النهار انتصف تقريبا حينما رأوا لون البحر قد تغير من الرمادى الإردوازي، ثم إلى الأخضر الزمردى مع أضواء ذهبية، ورغوة الأمواج البيضاء تشبه الثلج المتساقط.



كان قارب النجاة يرتفع ويهبط من موجة لأخري، وكانت الرياح تبعثر شعر الرجال الأربعة، وتبعثر معه الأمل فى النجاة. وفى رحلة قفز القارب وهبوطه يختلس الرجال لحظات خاطفة يتمكنون من رؤية مساحات شاسعة من البحر الساطع.



قال الطاهي: نحن محظوظون لأن اتجاه الرياح يدفع بالقارب نحو الشاطئ. لو كانت تهب من اتجاه آخر ما كنا لنتمكن من الوصول إلى الأرض.



وافقه الصحفى والبحار. لكن الكابتن ضحك ضحكة تعبر عن السخرية والتراجيديا فى وقت واحد. وسأل: «هل تعتقدون أن لدينا فرصة حقيقية للنجاة أيها الشباب». سؤاله جعلهم يتوقفون عن الكلام.فحين حاولوا التعبير عن الأمل فى النجاة شعروا أنهم حمقى أغبياء! لكنهم لا يريدون أن يفقدوا ذلك الأمل؛ لذا فضلوا الصمت.



قال القبطان: حسنا سنصل إلى الشاطئ. لكن نبرة صوته توحى بأن هناك شيئا، فقال البحار: هذا إن استمرت الريح بهذه السرعة، لكن الطاهى والصحفى لم يتمكنا من فهم حقيقة الموقف بعد حوار القبطان وبحاره.



حلقت النوارس حولهم. فى بعض الأحيان تحلق تلك الطيور فى مجموعات قريبا من الطحالب البحرية البنية التى تتمايل مع الأمواج.



الغريب أنه مع كل هذا الغضب من البحر ظل الرجال الأربعة رابطى الجأش وصامدين، لم يفقدوا الأمل فى الوصول إلى بر النجاة.



اقتربت النوارس من الرجال الأربعة، اقتربت أكثر. حدقت فى وجوههم بعيون سوداء مذعورة، فصرخ الرجال فيها بغضب فى محاولة لإبعادها.



واصل البحار والصحفى التجديف. أحيانا يجدفان معا بالمجدافين، وأحيانا أخرى يجدف أحدهما بمفرده بينما يستريح الآخر. الطحالب البحرية البنية تظهر أمامهم من وقت لآخر. كانت تشبه الجزر الثابتة فى عمق المحيط و لا تتحرك. كان القارب يتقدم ببطء شديد نحو الشاطئ.



ساعات مرت، دون تغير كبير فى حركة القارب، لكن موجة عاتية حملته فوق قمتها. كان هذا الارتفاع كافيا ليجعل القبطان يحدق عبر المياه، ويقول بفرح ظاهر: «لقد رأيت منار مدخل البعوض».



حدق الطاهى أكثر وهو يزيل المياه عن عيونه وقال: «لقد رأيت أنا أيضا المنارة»، أما الصحفى فقد بدأ يفتش بعينيه فى السماء باتجاه الغرب. سأله الكابتن: هل رأيتها؟ فرد عليه الصحفى ببطء:«لم أر شيئا». قال له القبطان: «انظر مرة أخري، إنها بالضبط فى هذا الاتجاه». حدق الصحفى قليلا، فرأى شيئا صغيرا عند حافة الأفق، يكاد يشبه رأس دبوس صغير. أدار وجهه نحو القبطان وقال: «ترانا سنفعلها يا قبطان؟، فرد عليه: «إذا استمرت هذه الرياح بهذا الشكل، ولم يغرق القارب، أظننا سنفعلها».



لقد قامت بين الرجال الأربعة على هذا المركب الصغير ووسط هذا البحر الهائج أخوة يصعب وصفها. فكر الصحفى ساعتها أن هذه التجربة، وسط هؤلاء الذين شاركوه لحظات الذعر والأمل أفضل ما حدث له فى حياته.



أطاع الجميع القبطان، فقد كان قائدا جيدا، يتحدث دوما بصوت خفيض وحكيم. فكر الصحفى أنه لم ير من هو أكثر منه هدوءا وصبرا. قال لهم: «أتمنى لو كان لدينا شراع»؛ لنعطى لاثنين منكما فرصة للراحة، فالشراع يساعد فى دفع القارب، ساعتها يمكن لاثنين منكما الاستراحة قليلا. لم يعلق أحد، فلا شراع هناك يمكن أن يساعد فى دفع المركب. فجأة قام القبطان، أمسك بمعطفه ولفه على أحد المجدافين، وصنع شراعا؛ مما دفع المركب للسير بسرعة أكبر.



كانت المنارة تتضح أكثر. فى النهاية، ومن فوق قمم الأمواج المتلاطمة استطاع الرجال رؤية الأرض التى كانت تقترب، كأنما ترتفع من باطن البحر. لم يمر وقت طويل حتى رأى الرجال خطين، أحدهما أسود والآخر أبيض. قال البحار للصحفي: «الخط الأسود هو الأشجار والأبيض هو الرمال».



فى النهاية رأى القبطان منزلا على الشاطئ والمنار بدا أكبر. قال لبقية الرجال: «أبشروا حارس المنار سيكون قادرا على رؤيتنا الآن. سوف يبلغ رجال الإنقاذ»، ثم أردف بصوت واهن وأمل قليل: أرجو أن يرانا!.



كانت الأرض ترتفع ببطء. الريح هبت مجددا، وقد سمع الرجال صوتا جديدا، إنه صوت تكسر الأمواج على الشاطئ.



قال القبطان: «لن نكون قادرين على الوصول للمنار الآن، فالرياح سوف تغير وضعنا. أدر رأسها إلى الشمال قليلا يا بيلي».



رد بيلى بهدوء: «إلى الشمال قليلا يا سيدي؟».



رأى الرجال الأرض بشكل أوضح. كبر الأمل فى صدورهم. فى غضون ساعة، ربما يصلون إلى الأرض. كافحوا حتى يمنعوا القارب من الانقلاب. كانوا يحافظون بصعوبة على اتزانه. كانوا مثل رجال السيرك الذين يحاولون ترويض ذلك الحصان الوحشي، القارب، الذى تتلاطمه الأمواج، والمياه تغرقهم. الصحفى شعر بضيق من البلل الذى غطى ملابسه وجسده.وشعر بحاجته إلى سيجارة. وبأمل ضئيل بحث فى جيب معطفه، فعثر على ثمانية سجائر: أربعة مبللة كلية، لكن البقية جافة. بحث عن ثقاب، فلم يجد. فتش الطاهى فى جيب معطفه الجانبي، فوجد علبة ثقاب جافة. كل واحد منهم أشعل سيجارة.



أبحر الرجال الأربعة فى مركبهم وأمل الإنقاذ يشرق فى عيونهم. دخنوا سجائرهم وشربوا المياه العذبة التى وجدوها فى قاع المركب.



تمتد أمام أعينهم مساحات شاسعة من الساحل. ببطء نهضت الأرض مجددا من وراء جبال الأمواج. رأوا بناء صغيرا على الشاطئ. وإلى الشمال منه رأوا المنار. كان المد والرياح والأمواج يدفعون المركب نحو الشمال. اعتقدوا أن شخصا ما على الشاطئ حتما سيرى القارب قبل أن يجرفهم التيار مرة أخري.



قال القبطان: «أفترض أننا يجب أن نحاول الوصول إلى الشاطئ بأنفسنا. لو بقينا هنا فترة طويلة، لن يكون لدى أحد منا قوة كافية للسباحة والوصول إلى الشاطئ بعد غرق القارب. لذا أدار البحار بيلى القارب مباشرة تجاه الشاطئ.



قال القبطان: «إذا لم نصل جميعا إلى الشاطئ أتمنى أن تُعرف أخبار موتنا!». أتمنى أن يصل خبر موتنا إلى عائلاتنا، ثم تبادل الرجال بعض المعلومات.



كان الغضب وفقدان الأمل يملئان قلوبهم. قال القبطان إذا كنا سنغرق فى النهاية، لماذا ساعدتنا الآلهة السبعة التى تحكم البحار على أن نكافح كل هذا الوقت من أجل الوصول؟! لماذا سمحت للأمل أن يكبر فى قلوبنا وأرتنا الرمال والأشجار؟!.



الرياح تزداد عنفا، والأمواج تجتاح المركب الذى كاد أن يغرق مجدا، والساحل ما يزال بعيدا.



قال البحار: «أيها الرجال، القارب سيصمد بضع دقائق أخرى قبل أن يتحطم، فقد كان بعيدا عن الإبحار لمدة طويلة. والتيار يجذبنا بقوة، لو استمر توجيهى له نحو الشاطئ قد تحطمه الرياح والأمواج العاتية؟ لا نستطيع أن نجدف ضد اتجاه الرياح فترة طويلة، فهل أديره نحو البحر مرة أخرى يا كابتن؟». رد عليه القبطان بيأس: «نعم حاول أن تديره نحو البحر». أدار البحار القارب إلى البحر بأمان مرة أخري.



قال أحد الرجال: «من المضحك ألا أحد رآنا من فرق الإنقاذ حتى الآن!».



قال الصحفي: «ربما فكروا أننا نمارس الرياضة أو نصطاد سمكا، أو ربما فكروا أننا مجموعة من الحمقي».



بعد قليل حاول البحار والصحفى دفع القارب تجاه الشاطئ. فجأة رأوا رجلا يسير على طول الساحل. الرجل توقف عن السير، ثم رفع يده فى الهواء، وأشار لهم. لقد رآهم بالفعل، فأسرع إلى المنارة!.



ربط القبطان قطعة قماش فى نهاية طرف عصا وجدها فى باطن القارب وبدأ يلوح بها. ظهر رجل آخر على الشاطئ. بدأ الرجلان يلوحان بأيديهما فى الهواء، فى محاولة للترحيب بمن فى القارب.



مرة أخرى ازداد الأمل فى قلوب الرجال على القارب، فقد رأوا حافلة، إنها حافلة الفندق. وقف رجل على درجاتها وبدأ يلوح بمعطفه. لكن لا شيء حدث بعدها.



تعجب الرجال فى القارب، وتساءلوا عما يريد الرجل على درجات الحافلة أن يقول لهم. هل يحاول أن يقول لهم شيئا؟ هل يجب أن يديروا اتجاه القارب إلى الشمال، أم إلى الجنوب؟.



انتظر الرجال طويلا، انتظروا ولا شيء يحدث!. لم يأت أحد لإنقاذهم!. لقد بدأت الشمس تغيب، وظلام الليل أخفى كل شيء، فلم يتمكنوا من رؤية أى أحد. البرد الشديد أثر على مشاعرهم ونال من قوة ثباتهم ورباطة جأشهم. ظلوا يتجولون طوال الليل فى البحر. البحار والصحفى يجدفان بحركة دءوبة ومنتظمة. وكان هسيس الأمواج وتكسرها على الشاطئ يدخلان شعورا من الحزن والوحدة على قلبيهما.



أخيرا تحدث الطاهي: بيلى ما نوع الفطائر التى تفضلها؟.



فطيرة؟! ردا عليه البحار والصحفى فى آن واحد بصوت غاضب: «لا تتحدث عن هذه الأشياء».



رد الطاهي: «إننى فقط أفكر فى شطائر لحم الخنزير و....». لم يرد عليه أحد، فصمت. ثم ذهب للنوم بجوار القبطان.



ليلة أخرى فى البحر فى قارب مفتوح وساعات طويلة وباردة تمر ببطء. يا لها من ليلة! ظل البحار يجدف حتى سقط رأسه على صدره، ونام. ثم انتبه فجأة حينما انحرف المجداف من يده، فطلب من الصحفى أن يجدف بالمجدافين حتى يتمكن من النوم قليلا فى قاع المركب مع الطاهى والقبطان.



كان الصحفى يجدف منفردا، شعر بالأسي، وفكر أنه الرجل الوحيد الآن فى العالم الذى يجدف بذراعين متعبتين وفى قارب مفتوح وسط محيط غاضب.



الريح تعوى بصوت حزين، وتدفع بالأمواج نحو القارب. فجأة سمع صوت حفيف طويل وعالٍ خلف القارب، وأضواء زرقاء فضية تسطع بقوة. ربما يكون حفيف سكين ضخم. ثم سمع صوت الحفيف مرة أخرى والضوء الأزرق الساطع لكن هذه المرة بجانب المركب.



رأى الصحفى من خلال الضوء الذى لمع مرة أخرى زعنفة فضية ضخمة تمر بسرعة مثل الشبح، تمخر الماء، فتحدث دروبا وممرات متوهجة بجانب القارب. لاحظ أن حركة هذا الشيء سريعة وقوية. فكر أن هذا قد يكون سمك قرش ضخم. تمنى عندئذ أن يستيقظ بقية الرجال، فلا يريد أن يكون بمفرده مع سمك القرش. كان غاضبا منهم، فقد تركوه وغرقوا فى النوم فى باطن القارب.



حينئذ تذكر قصيدة تعلمها وهو طفل. كانت قصيدة عن جندى من الفيلق الفرنسى الذى كان قد انهزم فى الجزائر، ومات وحيدا بعيدا عن وطنه. كانت القصيدة تحكى عن مشاعر هذا الجندى الملقى فى أرض غريبة بعيدا عن وطنه وقد أصيب، وقبل أن يموت مباشرة صرخ متألما: «لن أرى أبدا وطنى مرة أخري». والآن بعد مرور سنوات طويلة على حفظه لتلك القصيدة الحزينة فهم لأول مرة مدى حزن الجندى المحتضر بعيدا عن عائلته.



مرت ساعات والصحفى يشعر بالحزن والحنين. كان يجدف بقوة حتى ناله التعب. نادى على البحار. أيقظه وطلب منه أن يجدف مكانه حتى يستريح قليلا. أخذ البحار المجدافين وبدأ يجدف، وبعد مرور ساعة أعاد واحد من المجدافين إلى الصحفى ليساعده فى التجديف.



عرف كلاهما أنهما هما فقط من يستطيعان منع القارب من الغرق؛ لذا جدفا ساعة بعد ساعة، حتى طلع النهار. رأى الرجال الأربعة الأرض مرة أخري، لكن لم يكن هناك أحد على الشاطئ. بدأوا يتناقشون فيما يمكن أن يفعلوه حتى يصلوا إلى الأرض بسلام.



قال القبطان: «إن لم تأت المساعدة من فريق الإنقاذ يجب أن نحاول الوصول إلى الساحل بأنفسنا على الفور. إذا بقينا هنا لفترة طويلة سوف نكون أضعف من أن نفعل أى شيء لأنفسنا على الإطلاق».



وافقه بقية الرجال, وبدأوا يوجهون القارب تجاه اليابسة. طلب منهم القبطان أن يقتربوا من الشاطئ بحذر، فقد تُغرِق الأمواج القارب إن اقتربوا بسرعة، فالإبحار ضد التيار قد يفكك خشب المركب أو يغرقه. وأكد عليهم أنهم حين يقتربون من الساحل عليهم أن يقفزوا جميعا من القارب ويتجهون إلى الشاطئ سباحة.



عندما اقترب القارب من الأرض كانت الأمواج أكثر عنفا وشراسة. ضربتهم بعنف حتى غطتهم المياه، ثم رفعت القارب لأعلى وألقت به ثانية لينقلب ويقفز منه الرجال. لم يكن أمامهم أى طريق للنجاة سوى السباحة نحو الشاطئ. الصحفى كان متعبا، لكنه سبح بصبر ودأب. توقف عن السباحة قليلا وبدأ يبحث عن بقية أصدقائه، وصورة الجندى الذى مات وحيدا بعيدا عن وطنه تملأ رأسه. رأى أمامه بيلى البحار يسبح بقوة وسرعة. وكان الطاهى خلفه، وبجواره القبطان يمسك بالقارب المقلوب. يحاول أن يعدله. تعب الصحفى من السباحة. لم يعد قادرا على المواصلة. كان التيار يحمله بعنف ويعيده إلى البحر. فكر هل سأغرق؟ هل يمكن أن يحدث هذا؟. لكن التيار تغير فجأة، وأصبح قادرا على السباحة نحو الشاطئ. فعاد إليه بعض الأمل. ناداه القبطان أن يعود إلى القارب، فقد عدله، وركب فيه، فبدأ الصحفى يسبح نحوه.



فجأة رأى رجلا على الشاطئ يخلع حذاءه وملابسه بسرعة. اقترب الصحفى من القارب، لكن ضربته موجه كبيرة وطيرته فى الهواء، ثم ألقت به نحو القارب، ولكن قبل الوصول إلى القارب أزاحته الرياح مرة أخرى بعيدا. حاول الاقتراب ليتمسك بالقارب؛ حتى لا ينداح مع سرعة الأمواج، فلم يتمكن من ملامسته. كان متعبا وضعيفا، وكل موجة تلقيه لأخري، فكلما اقترب من الشاطئ جره التيار إلى البحر ثانية.



رأى الرجل مرة يقفز فى الماء ويسحب الطاهى نحو الشاطئ. ثم ركض مرة ثانية إلى البحر؛ ليسحب القبطان، لكن القبطان لم يستجب له، وأبعده عنه، ثم أشار له على الصحفي، وطلب منه أن ينقذه.



أمسك الرجل بيديّ الصحفى وجره إلى الشاطئ، وبعد أن أخرجه اعتدل؛ ليعود مرة ثالثة إلى البحر لينقذ القبطان، لكنه توقف فجأة وأشار من خلال دموعه قائلا: «ما هذا؟ تأخرنا كثيرا فى إنقاذك».



كان البحار بيلى منكفئا على وجهه فى المياه الضحلة. لم يعرف الصحفى ماذا حدث بعد ذلك، فقد كان ملقى على الرمال دون حراك، كمن ألقى من قمة منزل عالٍ.



وعلى الفور امتلأ الشاطئ بالرجال ومعهم البطاطين والملابس الجافة وزجاجات الويسكي. وجلبت النساء القهوة الساخنة، ورحب الناس بالرجال الناجين من البحر على أرض الشاطئ.



لكنه وحده الجسد الصامت والمبتل تم سحبه إلى الشاطئ ببطء، ولم يبد حركة. رحبت الأرض بجسد البحار بيلي. أخيرا وجد راحته النهائية عليها، بعد أن كافح طويلا من أجل أن ينقذ قاربا يشبه حوض استحمام صغير، ويركبه بعض الذين نجوا من غرق السفينة. كانت هذه نهاية رحلته فى البحر التى استمرت ما يزيد على ثلاثين عاما قضاها وسط أمواجه العاتية، ها هى الأرض تستقبله الآن استقبالا أخيرا، لقد انتهت رحلة المعاناة.



عندما جاء الليل تحركت المياه برغوتها البيضاء المشربة باللازوردى ولمعت فى ضوء القمر. كانت تزحف نحو الشاطئ ببطء، ثم ترتد ثانية إلى البحر. الأمواج تحمل أصوات الرياح المحملة بصخب النهار إلى الرجال على الشاطئ.