عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
الهروب من الاطار
4 سبتمبر 2020
مصطفى البلكى


قبل هذه المحاولة, كنت أذهب إلى المكان بشكل شبه يومي, كل مرة أجلس على الأحجار, أظل أنظر إلى الماء, وكنت أرى أشياء كثيرة تمضى مع التيار, فردة حذاء, قطعة ملابس, بوص, قش, كتاب, وأشياء كثيرة كان التيار يبتلعها, فتصمد, ثم يفلتها دفعة واحدة كالسماء حينما تمطر, وفى كل مرة كنت أعود بشيء.. مع الأيام اجتمعت لدى الكثير من الأشياء, لفتت انتباه والدي, فطلب منى أن ألقيها خارج البيت, توسلت إليه فلم ينصت لي, فصمتُ حزينا, وخرجت وعلى كتفى صرة كبيرة, مددت عينى فى المدى لأختار مكانًا مناسبًا لأودع فيها كنزي, وقفت وحيدًا فى المكان الذى يأتى إليه الناس ليتركوا مخلفاتهم فيه, وجدته مكانًا مقززًا, ولا يليق بأن أترك فيه ما لدي, وفجأة برزت لى الترعة, وخصوصا المكان الذى وجدوا فيه جارتنا العجوز غريقة, كنت ما زلت أذكر حكاياتها, وما زلت غبيا أؤمن بأنها تركت جراب حكاياتها فيها ورجعت وحيدة كجثة هامدة, فوقفت فى المكان نفسه ونظرت إلى الماء, وبهدوء رحت أستجدى التيار أن يتوقف قليلاً لأنظر فى جوف الترعة, كان يمكن وقتها أن ألقى ما أحمل, وأعود, لكن رغبة العودة إلى البيت وإخراج اللوحة التى خلصتها من إطارها من كتاب التاريخ ووضعها فى الصرة, ملكتني.. وحتى يطمئن قلبى طال وقوفى والمكان يضمني, ومحاولة إنهاء المهمة تبدو عصية, وأصبحت متأرجحًا متقلبًا, وهذا الأمر هو الذى جعلنى أشعر بقيمة ما أحمل على كتفي, وفى اللحظة التى سكت فيها كل شيء, ألقيت بالصرة بعد أن وضعت فيها حجرًا, وتابعتها وهى تغوص, لترتطم بالقاع, وتصعد دوامة من العكار راحت تتسع رويدا رويدا حتى تلاشت.



وعدت إلى البيت حزينًا, كان والدى يجلس فى المجاز, تجاوزته وجلست على مقربة من أمي, كانت عيناى تراقبان يده التى دائما يشوح لى بها, رأيته يرفعها ويضبط عمامته, فبقيت صامتًا بينما يدور الحديث بينه وبين أمى عن مشكلة «التصويرة» كما وصفها, التى سرقت من المدرسة, كانت كلماته تتخبط كطفل يتعلم المشي, وأمى تنصت ولا تجد ما تقوله, تهتز شفتاها وتود أن تدلى بدلوها, إلا أن رغبتها فى إسكاته جعلتها لا تتجاوب معه, مما جعله يستدير نحوي, رأيته يبلعنى بعينيه, وكأنه يستخلص منى ما حدث, ويسألني:



شفت التصويرة اللى بيقولوا عليها؟



اضطربت قليلاً, لكن الصرة التى أودعتها فى جوف الترعة عادت إليّ, لا صوت فى المكان إلا صوت غرقها, تابعتها وهى تعود, كانت الساعة تقترب من الرابعة عصرًا حينما فشل والدى فى استخلاص ولو كلمة منى عن اللوحة, وهو نفس الوقت الذى يغادرنا فيه إلى المقهي, وفى محاولة منى لطمس أركان الجريمة, وضعتها فى جيبى مطوية, وتوجهت إلى الترعة, ولما وصلت إلى مكان غرق العجوز, لم يكن هناك أحد, كانت هناك - فقط - عصافير على الأشجار تردد ألحانها.



تخلصت من ملابسي, وأمسكت باللوحة فى يدي, وألقيت بجسدي, فأحدث الصوت نفسه الذى نجم عن ارتطام الصرة بسطح الماء, وتذكرت وأنا أغوص للعمق أنى لا أعرف شيئًا عن فن العوم, ولم يحدث من قبل أن وجدت فى مثل هذا الموقف, فأدركت والدنيا تظلم تحت سطح الماء أنى أغرق, كانت حقيقة صادمة لي, وجسدى كله يُسحب لتحت تحت وطأة قوة قاهرة, فى تلك اللحظة بدأت اللوحة فى الظهور أمامي, وجملة والدى تعود بإلحاح غريب: «مفيش حاجة بره البيت»، وفم مدرس الرسم يقول لنا ونحن فى غرفة التربية الفنية:



شايفين الواد اللى بيتخلص من سجنه.



نظرنا فإذا بطفل جميل, يهرب من لوحة معلقة على الجدار, على وجهه نظرة دهشة واستغراب وحذر فى الوقت نفسه, ويداه تمسكان بالضلعين القائمين ليمكنه التخلص من سجنه الذى يلوح خلفه فى الخلفية المظلمة التى تنغرس فيها رجله اليسري, بينما اليمنى على حافة الإطار, فى ذلك اليوم عدت إلى البيت مسكونًا بهذا الطفل البائس الذى لم يتخلص من خوفه ومن بؤس شكله الذى حاولت أن أقلده بعدما غيرت ملابسي, جعلت البنطلون مرفوعًا حتى الركبة, وفتحت القميص عند الصدر, وخرجت إلى مكان البئر وغرست قدمى فى بركة المياه الأسنة التى تجاورها, وبقيت هكذا وأنا أركل مقولة والدي: «مفيش لعب بره البيت», ولم أرجع إلا تحت ضغط الوعيد من أمى بعقاب قاس منها, غسلت قدمي, وغيرت ملابسي, وبدأت رحلتى مع فتنة الطفل, كنت أنا وأخى نرضخ لأوامر والدي, رويدا رويدا بدأنا نلعب فى البيت, وبدأت خلافاتنا تزيد حول ملكية الأشياء التى يأتى بها لتلهينا عن الخروج, وكأننا نقول له: «كل حاجة بره البيت»!



وبدأ الأمر يزداد سوءا, ولا أعرف كيف ظهر لى الأمر ذات يوم, حينما دخلت غرفة التربية الفنية ووجدتها خالية, وفى جيبى موسى أستخدمه فى برى القلم الرصاص, وجدتنى أُشد إلى الطفل, وبداخلى رغبة أكيدة فى تخليصه من الإطار الخشبى الذى يسجن ملامحه, أنهيت مهمتي, وطويتها ووضعتها فى جيبى وعدت إلى فصلي, وكلما لمست جيبى خشيت من نهاية ما فعلت..



فلما انتهى اليوم الدراسي, تجولت كثيرًا فى طرقات البلدة أتلمس حلاً للجريمة التى ارتكبتها, سمعت أثناء سيرى كلامًا كثيرًا, لم أفهم بعضه, لأنى كنت سعيدًا لدرجة الحزن, وصف لا أعرف كيف ملأنى ولا كيف وصلني, لا يدرك هذا المفهوم إلا من سرق مثلى بنية تخليص شخص ما من محنته, وبدأت مهمتى بعد دخولى البيت, ركزت فى اختيار المكان المناسب لإخفاء اللوحة, لم أجد إلا كتاب التاريخ, فأخرجتها من جيبى وطويتها جيدًا ووضعتها فى منتصفه, وأخفيت الكتاب بين كتبى المدرسية, وفى اليوم التالى وفى حديث الناظر وردت السرقة, تحدث عنها كفعل مشين, وكل من تحدث بعده كان يتحدث بنفس فم والدي, بأنه لا شيء أفضل من الحياة بين جدران المدرسة, ويجب عقاب من ارتكب الفعل.



أنا من قرر عقاب نفسه, والعتمة تحيط بي, وكل شيء يسترد بهدوء, وكأن السماء بدأت تمطر, عاد كل شيء, فسقطت فى العمق, ورحت أبحث عن الصرة واللوحة فى يدي, والعكار يزداد, فيعلو ويطفح على السطح, والأحداث تمسك بي, وتأخذنى معها, والفشل يلوح لي, وأنا أقارن بين رمى الصرة والقفزة التى جعلتنى فى مكاني, فعدت إلى الحقيقة وعرفت أنه فى الحالتين غرق, انتفضت وتنفست تحت الماء, وكدت اختنق, فتركت اللوحة فسبقتنى إلى السطح لتدخل متلاصقة مع دوامة العكار ولتكون فى مرمى العصافير التى كانت تغرد..