«ولايزال الاستقلال الذى أعلن حبرا على ورق بل اسما بغير مسمى»..
تأسيس « لبنان الكبير» قبل 100 عام.. تأليف «الوطنى اللبنانى» بالقاهرة.. واحتفالات «النادى السورى» فى الإسكندرية
لبنان بلد صامد، وذلك وفقا إلى سجله التاريخى وواقع حاضره. فالتاريخ يبرهن ذلك بسيرة طويلة من الأزمات والصراعات التى تجاوزتها تلك الدولة بقوة. ومن أبرز هذه الأزمات أو المراحل السياسية المفصلية فى التاريخ اللبناني، إعلان قيام «لبنان الكبير» تحت هيمنة الانتداب الفرنسى.
فقبل مائة عام بالتمام وتحديدا فى نهايات أغسطس وبدايات سبتمبر 1920، قامت دولة «لبنان الكبير»، مؤلفة فى الأساس من «أرض لبنان .. بعلبك والبقاع حاصبيا وراشيا وبيروت وصيدا وطرابلس».
رايات ومدافع .. فى استقبال لبنان الكبير
ففى الصفحة الأولى للأهرام فى العدد الصادر بتاريخ الأول من سبتمبر 1920، جاءت تغطية تاريخية تحت عنوان: «جبل لبنان، اعلان لبنان الكبير»، وضمن التغطية: «تقرر ان يكون الاحتفال بإعلان لبنان الكبير يوم الاربعاء أول سبتمبر (اليوم) وقد وضع برنامج الاحتفال على هذا الوجه الآتي: يحضر الجنرال غورو من عاليه بطريق الشام فيصل إلى السراى القديمة الساعة 15 والدقيقة 45، تكون السراى القديمة وساحة البرج مزينتين بالرايات والمدافع، تستقبل لجنة البلدية ورئيسها فخامة الجنرال فى قاعة السراى القديمة، يخطب الرئيس وأحد المستشارين، فى الساعة 16 ونصف يبرح الجنرال السراى القديمة إلى منزله (بيت سرسق)، فى الساعة 17 يبرح منزله ويذهب الى البارك فيمر بشارع الجميزة وشارع سعيد عقل فساحة البرج فطريق الشام فيستقبله عند مدخل البارك متصرف بيروت واللجنة البلدية والاعيان، قبل ان يتكلم الجنرال يؤذن بإلقاء خطابين أو ثلاثة ويتفق على ذلك بين المتصرف ورئيس اللجنة البلدية، وهناك على الدكة المحتشدة أمامها الجماهير يعلن الجنرال لبنان الكبير وأن عاصمته بيروت».
وقد جاء إعلان استقلال لبنان بعد أن كانت تقع ضمن أراضى سوريا أو بلاد الشام كما كان يطلق عليها فى الماضى، وذلك بموجب اتفاقية سايكس - بيكو لعام 1916 التى أقرت فيها القوى البريطانية والفرنسية، أن أرض سوريا ستضم القدس وبيروت ولبنان ودمشق وحلب.
جاء إعلان قيام « لبنان الكبير» بعد سلسلة من المباحثات والاتفاقيات التى جرت طوال شهور منذ عام 1919. ففى عدد «الأهرام» الصادر بتاريخ 19 يوليو 1919، ورد خبر تحت عنوان «استقلال لبنان الكبير، اللجنة الامريكية فى لبنان وسوريا»، ومن ضمن ما جاء فيه: «نلخص اليوم عن أعداد جريدة البرق الأخيرة ما عرض على اللجنة الامريكية للاهلين فى دمشق فى طوافها من الآراء الخاصة بلبنان، لما دعت اللجنة الطائفتين الكاثوليكية والمارونية فى دمشق لمقابلتها جمع سيادة المطران نيقولاس قاضى، نائب غبطة بطريرك الروم الكاثوليك عددا من زعماء المهن الحرة، ولما سألت اللجنة هذا الوفد عن رأيه فى لبنان قال: (اننا كسوريين نطالب بإستقلال سوريا بمساعدة فرنسا، ولكننا نتمنى ان ينال اخواننا اللبنانيون استقلالهم التام سياسيا واداريا بالحدود الطبيعية التى يطلبونها لأن لبنان اذا كان مستقلا يكون حمى لنا نلجأ اليه عند الحاجة)، ولما قدمت تلك اللجنة الى بيروت قابلها وفود الاحزاب والطوائف وكانوا كلهم يعربون عن امنية واحدة وهى استقلال لبنان الكبير ووجوب تأييد الدول لهذا الاستقلال، وقابلت اللجنة الامريكية وفد جامعة لبنان الكبير المؤلف من عموم طوائف لبنان فقدم إليها الوفد بيانا مطبوعا يتضمن أمانى الجامعة التى تمثل 90 فى المائة من الشعب اللبنانى، وخلاصة هذا البيان ان اللبنانيين يريدون استقلال لبنان الكبير استقلالا تاما منفصلا عن سوريا مع مساعدة فرنسا، وقد جرت مقابلة خاصة للجنة مع الامير سعيد حفيد الامير عبدالقادر الجزائرى المشهور دامت ساعة كاملة عرض فيها الامير جميع ما لديه من المعلومات، وقالت جريدة البرق: وقد خرج الامير ودلائل الرضا بادية على وجهه وعلمنا انه اعطى اللبنانيين الحق فى طلبهم الاستقلال التام لما رآه بعينه فى سوريا من الاعمال».
الرياشي.. جرأة صحفى لبنانى
وفى الموضوع ذاته، آوردت «الأهرام»: «تمكن الصحافى الجرىء لبيب افندى الرياشى من مقابلة اللجنة بعد احتجاجه الشديد على عدم مقابلتها النقابات، فقابله اعضاؤها معتذرين وجرى له معهم حديث طويل نأخذ منه مايلي: قال له احد الاعضاء:ما شهدنا هذه الجرأة من سواك، فقال الصحافي:سوف تشاهدون أكثر من ذلك من صحافى ولد فى لبنان حيث ينبت نوابغ الشرق وعاش فى امريكا بلاد الحرية، وان هذا الصحافى اللبنانى سيحتج عليكم لانكم لم تحققوا الفكرة التى قالها وهى أنكم خير أمة يرتكز عليها الشرق، اللجنة:لماذا؟، الصحافي:لأنكم رفضتم مقابلة جميع الصحافيين والاطباء والصيادلة والمحامين، وهؤلاء هم خيرة رجال الفكر فى كل قطر، ومطالبى أولا الاحتجاج على ديمقراطيتكم، ثانيا الاحتجاج على الارستوقراطية والانانية اللتين مثلتا امامكم عند جيراننا، انكم ترون بنا فى لبنان الكبير جمهورية ديمقراطية مستقلة منفصلة عن سوريا سياسيا واداريا... أهلا بهذه الامة النشيطة الناهضة التى يخافها العاجزون، اللجنة:ماسمعنا قط مثل هذه الجرأة وهذه الديمقراطية، الصحافي:ربما كنتم تسمعونها من الوفود التى رفضتم مقابلتها... اللجنة:أتقول هذا فى بيروت ولبنان؟، الصحافي:نعم ودون ان اضطهد لأنى لست فى سوريا الداخلية بل أعيش فى بلاد حرة، اللجنة:نحن نعترف بتفوق اللبنانيين ورقيهم فقل لهم إنهم سينالون ما يتمنون فهم اذكى من شاهدنا».
شروط قيام الدولة الجديدة
ولم يكن استقلال لبنان بالشىء السهل اليسير، فقد كان من شروط حدوثه هو اختيار لبنان لدولة يتم انتدابها من جانب «عصبة الأمم المتحدة» لتتولى إرشادها فى البداية على حد زعمهم وكانت هذه الدولة هى فرنسا. وفى إشارة من الأهرام للمقابلة التى حدثت بين غبطة بطريرك الموارنة واللجنة الأمريكية، نقلت الصحيفة الحوار الذى دار بينهم فى عدد 20 يوليو 1919عندما سأل رئيس اللجنة البطريرك «لماذا تفضلون فرنسا؟، فجاء رده كالآتى»أستغرب هذا السؤال لصدوره منكم أنتم الامريكان الذين قطعوا البحار وجاءوا إلى فرنسا وأهرقوا دماء ابنائهم فى سبيلها وفاء لدين قديم شريف أدانتكم اياه فرنسا يوم حضنت استقلالكم وساعدتكم عليه، فنحن إقرارا بالجميل ومراعاة لتقاليدنا القديمة وعلاقتنا التاريخية نطلب مساعدة فرنسا ولنا الأمل انها تحضن استقلالنا كما حضنت استقلالكم»
وفى عدد الأهرام 31 مارس 1920 نشرت « الأهرام» البنود التى تضمنها برنامج العمل الذى أعده مركز حكومة جبل لبنان، وبحضور وفود اللبنانيين تمت مناقشة هذه البنود، ووفقا للأهرام: «البند الأول- إعلان استقلال لبنان الكبير بمساعدة فرنسا، الثاني- الاحتجاج على ما جرى بدمشق ويعد ماسا باستقلال لبنان، الثالث- الاحتجاج على اللبنانيين الذين ادعوا فى دمشق انهم ممثلو لبنان فى المؤتمر السورى وطلب محاكمتهم، الرابع- البحث فى درس القانون الاساسى، الخامس- العلم اللبنانى ورفعه على مراكز الحكومة اللبنانية، فوافق الحاضرون على البنود الثلاثة الاولى ولما تُلى البند الرابع اشتد الجدل والمناقشة لأن الهيئة الرسمية ظهرت بمظهر المتردد بحجة ان ذلك يتم بعد قرار مؤتمر الصلح، وحقيقة الامر أن هذه الهيئة ترى الا يضع مندوبو البلاد القانون الاساسى بل يضعه له أناس آخرون فلا يكون من مهمة اعيان البلاد ونوابها سوى الموافقة على ما يقرر لهم وانتهى الجدل بلا نتيجة أى بوعد مجلس الادارة بأن ينضم اليه بعض اللبنانيين لدرس القانون الاساسى والله وحده يعلم قيمة هذا الوعد، أما مسألة العلم فكان الجدال فيها أشد فالمندوبون طلبوا أن يكون العلم اللبنانى العلم الذى نشره المهاجرون اللبنانيون فى جميع الاقطار وهو العلم الابيض فى وسطه الارزة فاعترض رئيس مجلس الادارة على ذلك وقال إنه يود أن تكون الشارة اللبنانية معانقة للعلم الفرنساوى دليلا على المساعدة، وعاد الناس يقولون انهم لا يعتبرون ذلك كله قرارا من الشعب اللبنانى بل لعبة من مجلس الادارة بالاتفاق مع بعض أناس ليصرفوا الشعب عن مطلبه»
جان دارك تلتقى الجنرال غورو
وفى وصف لحفل إعلان دولة لبنان الكبير صدر عدد الأهرام 8 سبتمبر 1920 وبه رصد دقيق لما كان من الاحتفال بحضور الجنرال هنرى غورو المندوب السامى للانتداب الفرنسى على لبنان وسوريا، فجاء ما يلى «لايستطيع الكاتب ان يصف فرح اللبنانيين باعلان استقلالهم فإن 60 الفا منهم انحدروا من الجبال الى بيروت ووفدوا من الثغور والسهول لحضور الاحتفال وازدانت بيروت كلها أجمل زينة ونصبت السرادقات فى كل حى، ونزل الجنرال غورو فى الصباح إلى بيروت فزار دار البلدية حيث حيا رئيسها باسم بيروت عاصمة لبنان فأجابه الجنرال أن بيروت ستحافظ على امتيازاتها وإن تكن عاصمة لبنان تكن لها ميزانية خاصة وترجع بشئونها الى رئيس لبنان الكبير، وبعد ذلك خرج الجنرال بموكبه الى حى الجميزة حيث قابله المجتمعون وكانت فتاة بلباس جان دارك تركب جوادا وتتقلد سيفا فحيته فضمها الجنرال إلى صدره وقبلها، وحشدت الالوف فى حديقة الحرج حتى ضاق بهم المقام فتسلقوا الاشجار ووقف على السلم وفد دير القمر يحمل العلم اللبنانى الكبير ووفد من السيدات يحملن علما مطرزا بأيديهن لا تقل قيمته عن 20 ألف فرنك، ثم وقف الجنرال غورو وألقى خطابه بإعلان استقلال الدولة اللبنانية وحدود لبنان، ولما فاه بهذه الكلمة عزفت الموسيقات كلها بالنغم اللبنانى والنغم الفرنساوى».
فرحة أهالى لبنان فى مصر
كانت فرحة اللبنانيين المقيمين فى مصر لا تقل عن فرحة وحماس الشعب اللبنانى على أرضه. وتعبيرا عن هذا الحماس، قاموا بتأسيس حزب سياسى لهم فى مصر. فوفقاً للأهرام فى عدد 6 سبتمبر 1920 «ان فريقا كبيرا من اللبنانيين المقيمين فى مصر مازال يسعى منذ أشهر لتأليف حزب سياسى يكون له برنامج مبنى على تعليم سياسى يقاد به الرأى العام اللبنانى فى الاحوال الحاضرة ويمكن أن تتفق عليه كلمة جميع اللبنانيين الوطنيين الذين يهمهم مستقبل وطنهم، ولقد تم الآن انشاء الحزب الجديد ودعى الحزب الوطنى اللبنانى، ورجال الحزب الجديد شبانا ليس فى قلوبهم الا الحب لوطنهم لبنان ولا غاية لهم الا تقدمه ومجده، فيحق لهم أن يأملوا أن ينضم اليهم كل لبنانى مخلص لوطنه»
وشاركت مصر اللبنانيين احتفالاتهم، فنقل «الأهرام» بعدد 11 سبتمبر1920 الاحتفال الذى أقيم فى النادى السورى بالإسكندرية تحت عنوان «أخبار الاسكندرية، الاحتفال بلبنان الكبير»، وأورد «مراسل الأهرام الخصوصى» مظاهر الاحتفال وهذا بعض ما نقله إلينا «لبس النادى السورى بعد ظهر أمس حلة بهية من الزينة كانت عبارة عن رايات مصرية وفرنساوية ولبنانية وسلاسل متشابكة من المصابيح الكهربائية وكثير من الرياحين والأزهار، ولم تكد تنتصف الساعة السادسة مساء حتى أقبل المدعوون على النادى وكانوا لفيفا من ابناء تلك البلاد بين عائلات وافراد وجماعة من كبار الفرنساويين واعيانهم يتقدمهم جناب المسيو جايار معتمد فرنسا بمصر وحضرة صاحب السعادة خليل باشا خياط رئيس النادى، وعدد من كرائم السيدات والاوانس مرتديات أجمل الملابس الصيفية، افتتحت الحفلة بعزف نشيد المرسيليز فوقف الجمهور إجلالا ولو كان للبنان نشيد وطنى معروف لعزفت به الموسيقى أيضا»
«لبناني» يؤكد «حاكم البلاد لايزال أجنبيا»
ولكن يبدو أن الواقع الذى عايشه اللبنانيون بعد قيام الدولة الجديدة، جاء مخيباً للآمال العريضة، فبعد عام من وقوعه نقل الأهرام مقالاً كُتب بإمضاء «لبنانى» فى عدد 2 سبتمبر1921، وذلك بعض ما جاء فيه : «فى مثل هذا اليوم أول سبتمبر من العام الماضى أعلن استقلال لبنان، وأعلن إرجاع حدوده بسهولة و ثغوره إليه، وأعلن أن بيروت هى عاصمة الدولة اللبنانية الجديدة، سنة كاملة مرت على هذا الاعلان الرسمى...مرت السنة بكاملها على ذلك الحادث ولايزال الاستقلال الذى أعلن حبرا على ورق بل اسما بغير مسمى، فحاكم البلاد لايزال أجنبيا وكل السلطة التنفيذية فى يده، ودستور البلاد لو يسن ليحل محل ذلك النظام الامر الذى أعلن «مؤقتا» وجعل الموظفين الوطنيين من كبيرهم الى صغيرهم رهن ارادة المستشار الملحق بكل منهم، والانتخابات للهيئة النيابية لم تتم فلا تزال سلطة التشريع الوهمية من اختصاص لجنة عينت تعيينا ريثما يتم الاحصاء والله وحده يعلم متى ينجز الاحصاء، وكل مانالت البلاد من الحقوق للعرف بها لكل بلد مستقل تعيين سكرتير عام وطنى للحكومة لم نعرف عن اختصاصه شيئا حتى الآن سوى الموافقة على فتح اعتماد قدره خمسة آلاف ليرة لتأسيس المنزل المعد لسكناه، يذكر اللبنانيون اليوم كل ذلك بالأسف الشديد بمناسبة مرور العام على اعلان استقلال لبنان الكبير واذا كانوا يصبرون على الاصلاحات تنفذ ببطء وعلى الانظمة تسن على مهل بظرا لما قد يكون هناك من العقبات التى تحول دون سرعة الاصلاح فهم لا يصبرون مطلقا على تلك القرارات التى تهدم الوحدة اللبنانية وتفكك أوصالها بفصل عاصمة البلاد أى بفصل الرأس عن الجسم».