عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
مئوية على الراعى
7 أغسطس 2020
ناهد الكاشف;



  • زوجته جميلة كامل: كان يشعر بأن فى «عنقه» دينا عليه أن يسدده للدولة وللشعب


  • غيّر نظرتى للحياة فى الكثير من الأمور


  • مهنته كناقد جعلته حاسماً فى الحياة اليومية



 





نحتفل اليوم بمئوية الدكتور على الراعى (1920ـ 1999) الذى قدم على مدى سنوات حياته إنتاجاً نقدياً كبيراً يربو على خمسين كتاباً يشمل التأصيل والتنظير لفنون الدراما كما يشمل الترجمة والمتابعة النقدية الدؤوبة للإبداع العربى فى المسرح والرواية..



كان الراعى مشغولاً بفكرة مسرح للشعب .. لكل الشعب .. ومن هنا كان اهتمامه بالمفردات الفنية الشعبية مثل خيال الظل.. الفن المرتجل .. شخصية المحتال .. الأراجوز.. فنون السيرك المختلفة .. فكل هذه الفنون الشعبية التلقائية يقبل عليها الجمهور فى سعادة .. كما تولى رئاسة مؤسسة المسرح فى لحظة تأسيسية .. وخلال عقد من الزمان عرف المسرح على يديه بصوره المختلفة ازدهاراً وحضوراً مميزاً: المسرح القومى .. مسرح الجيب .. مسرح الطليعة ..مسرح العرائس .. فرق الفنون الشعبية وغيرها.



نحاول من خلال هذا الحوار مع الكاتبة الصحفية جميلة كامل التى رافقته فى حياته 50 عاما الاقتراب أكثر من عالم الدكتور على الراعى الزوج والأب والإنسان •



جميلة كامل لم تكن مجرد زوجة لكاتب وناقد كبير،هى صحفية كانت لها بصمة واضحة فى صحافة الطفل كانت البداية، فى جريدة المساء كمسئولة عن صفحة المرأة .. ثم فى مجلة الإذاعة والتليفزيون مع بريد القراء تحل مشاكلهم وتجيب على تساؤلاتهم .. وانتقلت بعد ذلك إلى دار الهلال فى قسم التحقيقات بمجلة المصور وأخيراً تخصصت فى مجال صحافة الطفل..



تجربتها فى صحافة الطفل تظل علامة مهمة فى حياتها .. بعد أن رشحها أحمد بهاء الدين رئيس مجلس إدارة دار الهلال كرئيس تحرير لمجلة سمير



تحدثت عن تعارفهما فقالت:لفت نظرى منذ بداية لقائنا، حيث كنت طالبة فى كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة، وكان هو قد تخرج من نفس القسم.. كان غزير المعرفة.. مطلع.. مثقف بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان، وفوق ذلك كله ينظر إليه الجميع باحترام وتقدير.. كل هذه الصفات جذبتنى إليه منذ البداية.. كانت مقابلاتنا فى الأساس فى نادى خريجى كلية الأداب الذى كانت تشرف عليه الصحفية المعروفة أمينة السعيد ــ فضلاً عن الجمعيات الأهلية التى كان لديها نشاط ثقافى معروف فى تلك الأيام ــ هناك فى هذا النادى حضرنا معاً لقاءات ثقافية وندوات مختلفة وكان على الراعى دائماً يلفت الأنظار إليه بكلماته الثاقبة والموجزة فى آن.. وتشير جميلة كامل إلى أن قسم اللغة الإنجليزية بالكلية كان يقدم عروضاً لمسرحيات لشكسبير، واشتركت مرة فى إحدى هذه المسرحيات بدور صغير.. كان يشجعنى ويحضر معى البروفات.. ووجدتنى أنجذب إلى شخصيته.. شخصية جادة حقاً لكنها تحمل معها فى نفس الوقت روح الفكاهة والضحك، فهو معروف بسرعة البديهة فى التعليقات والقفشات التى تثير إعجاب الجميع.. وعندما تقدم للزواج كعادة كل الأسر كان علينا أن نسأل عنه، ووقتها كان يعمل بالإذاعة المصرية فى نشأتها الأولي، قال لنا محمد فتحى وكان كبير المذيعين: لا أحد يسأل عن على الراعي، فهو متميز ومعروف وفوق الكل.. وبارك صديقه محمد عبد الجواد - الذى صار فيما بعد رئيساً لوكالة أنباء الشرق الأوسط - علاقتنا إذ كان متحمساً إلى على الراعى يرى فيه إنساناً ملتزماً يعتمد عليه.. وهكذا تزوجنا وسافرنا بعدها مباشرة إلى إنجلترا، بعد أن حصل على بعثة للحصول على الدكتوراه وتلك كانت محطة مهمة وجديدة فى حياتنا..



وتتذكر جميلة إحدى تجاربها المؤثرة مع الراعي فتقول: ذهبنا إلى انجلترا وكانت تجربة مؤثرة حقاً.. كنا حديثى الزواج، بلا خبرة، فى بلد لا نعرفه، ليس لدينا أقارب ولا أصدقاء، بالاضافة إلى قلق على الراعى وحرصه على النجاح لأنه يدرس على نفقة الدولة.. لم تكن الحياة فى الخارج سهلة كما يظن البعض.. اعتمدنا على أنفسنا فى كل شيء.. لم يكن يتدخل أحد فى شئوننا. ورغم صعوبة الغربة كان كل واحد منا يشعر أن عليه أن يكون صلبا لطمأنة الآخر ودعمه. وربما لهذا السبب تحديداً نجحنا فى أن نضع أساسات متينة لحياتنا الزوجية.. كان القرار الأول الذى اتخذناه هو أن نسكن فى مدينة صناعية صغيرة اسمها برمنجهام، لم نختر العيش فى لندن العاصمة الصاخبة كى يتفرغ لدراسته ويركز فى متابعتها.. ومن حسن حظنا أن برمنجهام تقع بالقرب من مدينة ستراتفورد بلد شكسبير، فكانت فرصة عظيمة لأن نتابع معاً العروض المسرحية العديدة لشكسبير، بالإضافة إلى مسرح برمنجهام الذى قدم روائع شكسبير كاملة على خشبته.. أذكر اننا بعد العودة من العرض المسرحى كان يردد مقاطع كاملة من المسرحية حفظها عن ظهر قلب من فرط حبه لها.. وهكذا وجدتنى أدخل أنا أيضاً عالم شكسبير والمسرح وأتابع معه باهتمام كل هذه العروض..



وتضيف جميلة كامل أن الراعىانجز رسالة الدكتوراة عن مسرح برنارد شو فى مدة قياسبة حيث كان من المتفرض أن تتم فى أربع سنوات ولكنه نالها فى ثلاث فقط وأعجب بها المشرف إعجاباً شديداً..عدنا إلى مصر عام 1955، جاءت ثورة 23 يوليو، لتنشر أجواء حماسية وطاقات إبداعية جديدة.. كان على الراعى يشعر بأن فى «عنقه» دينا عليه أن يسدده للدولة وللشعب. لقد نال عدة امتيازات وتعلم تعليماً مجانياً على حساب هذا الشعب الفقير، نال مجانية التفوق فى سنوات المدرسة والجامعة، ثم سافر على حساب الدولة أيضاً لنيل الدكتوراه، فكان يقول دائماً لقد أنفق شعبنا المكافح على تعليمى لمدة تزيد عن عشر سنوات، آن الأوان إذن أن أرد له هذا الدين.. وكانت الفرصة ممهدة له لرد الدين إذ تولى فى تلك السنوات رئاسة «مصلحة الفنون» فى عهد فتحى رضوان أول وزير للثقافة والإرشاد، وانشأت مصلحة الفنون أول فرقة للرقص الشعبى وهى فرقة «ياليل ياعين» التى شكلت المحاولة الأولى لتطوير الغناء والرقص الشعبيين، وعنها انبثقت «فرقة رضا» إلى الوجود عام 1958. وتوالت الإنجازات: الأوركسترا القومي، فرقة الكورال والموسيقى والباليه التابعة لدار الأوبرا، مشروع إنشاء دار للوثائق التاريخية القومية، سلاسل كتب ومجلات ثقافية.. كل ذلك أسهم فى الحقيقة فى نقلة ثقافية كبيرة فى بلادنا وفى تغير النظرة إلى الثقافة .



وحول روح التفاهم التى سادت حياتهما تقول جميلة: لم تكن هناك أى مشاكل بيننا خلال هذه السنوات الطويلة التى عشناها معاً.. كان التفاهم هو مبدأنا فى الحياة.. نواجه سوياً التحديات التى نتعرض لها.. مسئولية تربية الأبناء.. مصاريف البيت.. القرارات المهمة فى حياتنا.. كل هذه الأمور كنا نتشارك فى حلها.. أذكر أننا كنا نتقاسم الصرف على البيت معاً من مرتبنا.. نضع النقود أمامنا أول كل شهر ونصرف منها ما نحتاجه دون سؤال.. لقد غيّر على الراعى نظرتى للحياة فى الكثير من الأمور.. اعتدت معه على زيارة المتاحف والمعارض الفنية.. تعرفت على فنانات عظيمات مثل إنجى أفلاطون وجاذبية سرى اللاتى أهدين لنا لوحات فنية بديعة مازالت تزين حوائط البيت. ربما يكون اهتمامه الشديد بالفنون لاسيما الفنون الشعبية حافزاً لى أيضاً للانجذاب إليها والتعرف على عوالمها..



الزواج من ناقد يملك بصيرة واضحة ورأيأً ثاقباً فى شتى الأمور كان فى صالح حياتنا فى الحقيقة.. مهنته كناقد فى مجال الأدب والفكر والمسرح جعلته حاسماً فى الحياة اليومية العادية.. يرى الجوانب الإيجابية والسلبية ويوازن بينهما.. كان الجمبع دائما يستشيره فى المسائل العالقة التى نتردد فى اتخاذ قرار فيها.. ليس فقط على مستوى أسرتنا وعائلتنا، بل أيضاً على صعيد المعارف والأصدقاء.. على الراعى معروف برأيه الراجح والقاطع.. وكان ذلك يجعل الكل يشعر بالرغبة فى استشارته للحصول على قرار حاسم فى أمور كثيرة تشغل البال..



وعن طقوسه فى الكتابة تقول جميلة كامل: كانت واحدة طوال حياته.. لم تتغير أبداً.. فى الصباح بعد أن ينتهى من تناول الإفطار.. حوالى الساعة التاسعة يغلق باب حجرة مكتبه، ويكتب المقال أو فصل من الكتاب الذى بصدد إصداره فى جلسة واحدة بلا تردد.. لا يكاد يرفع القلم من الصفحة التى أمامه.. وحينما يفرغ من الكتابة يراجعها سريعاً ولا يعود إليها مرة أخري.. فهو لا يبدأ فى الكتابة إلا إذا كانت الأفكار واضحة فى ذهنه تماماً.. قبل عملية الكتابة هذه، كثيراً ما كان يحدثنى عن هموم وقضايا تشغله، أو يقرأ لى مقاطع من أعمال أدبية يود التعرض لها بالنقد.. ربما هذا الحوار الذى يسبق كتابة المقال يجعله مرتب الفكر وصافى الذهن وحاسماً فى تحديد ما يود إيصاله للقاريء.. كان لا يكتب كل يوم، بل يكتب حينما تكون هناك حاجة ملحة للكتابة..



محبوه ومعارفه وتلاميذه كثيرون.. الذين عمل معهم ورافقهم خلال رحلته الثقافية.. وكل هؤلاء الذين كتب عنهم بحب وقدمهم إلى الساحة الأدبية.. أما أصدقاؤه المقربون إلى القلب، الذى يتحدث إليهم ويضحك معهم على سجيته فهم قليلون.. هما إثنان فى الحقيقة من أقرب الناس إلى نفسه: نعمان عاشور وبهجت عثمان.. كانت بينهما صداقة نادرة جميلة.. تجمعهما صفات عديدة: حب المسرح والفن والابداع ورفقة طويلة لسنوات العمر من الشباب إلى الشيخوخة وذكريات لا تفارق النفس.. وبعدما صار اللقاء صعباً بسبب زحام الطرق والمتاعب الصحية، كان الاتصال التليفونى هو البديل.. كل يوم نسمع ضحكاته وقفشاته وصوته وهو يرن فى البيت، فنعرف على الفور أنه يتحدث إلى نعمان عاشور أو بهجت عثمان..



وحول الضغوط السياسية التى تعرض لها خلال رحلته تقول: كانت هناك بعض الضغوط السياسية عليه ترك على أثرها وزارة الثقافة، لكنه فى الحقيقة لم يهتم ــ رغم الدور الريادى الذى كان يقوم به ــ إذ أنه كان يرى نفسه مفيداً ومؤثراً فى مجالات أخرى عديدة، أولها كونه أستاذاً فى الجامعة بكلية الأداب قسم اللغة الإنجليزية، التدريس مهنة رائعة يقوم بها بكل الحب والإخلاص، فكل من درس على أيدى على الراعى يتذكر محاضراته وكلماته المؤثرة.. هناك أيضاً رغبته القوية فى التفرغ للتأليف والكتابة وهو أمر يحتاج إلى وقت ومجهود وذهن صاف ربما لم يكن متاحاً له وهو مسئول فى وزارة الثقافة.. هكذا بدأت رحلته فى التفرغ للكتابة والتأليف وكان نتاجها مثمراً: العديد من المؤلفات أذكر منها المسرح فى الوطن العربي، والرواية فى الوطن العربي، توفيق الحكيم فنان الفرجة وفنان الفكر..وغيرها من الكتب.



وفى الختام تقول جميلة: وقف إلى جوارى خلال مسيرتى الصحفية، داعمنى وساندنى خلال المراحل المختلفة التى مررت بها، منذ بداياتى عندما كنت مسئولة عن صفحة المرأة فى جريدة المساء، ثم انتقلت إلى دار الهلال وعملت فى مجال التحقيقات فى مجلة المصور.. وكانت النقلة الكبرى فى حياتى عندما رشحنى الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين - وكان وقتها رئيساً لمجلس إدارة دار الهلال- لرئاسة تحرير مجلة سمير للأطفال.. توليت هذه المهمة الصعبة فى حقبة عامرة بالكفاح الوطني، وأردت أن تعبر مجلة سمير عن هذا المناخ الوطنى الذى تعيشه بلادنا، فلا تصبح مجرد ظلاً باهتاً لمجلات الأطفال الغربية، توجهت إلى كبار الكتاب والفنانين للكتابة للأطفال مثل سبد حجاب، سمير عبد الباقي، مجدى نجيب ومن الفنانين صلاح جاهين، بهجت عثمان، حجازي، وإيهاب شاكر، واللباد.. وقد سهل لى زوجى التواصل مع هذه النخبة المميزة، فكانوا يأتون إلى بيتنا لمناقشة العديد من القضايا التى ينبغى أن تتطرق إليها مجلة سمير، وكان على الراعى يشاركنا هذه النقاشات المثمرة.. وهكذا أصبحت مجلة سمير ذات طابع عربى مميز يقرؤها كل الأطفال العرب.