عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
الحياة بين الارتهان والافتتان
25 يوليو 2020
سمير مرقص


فاجأنى محدثى بقوله: أراك متفائلا وتحاول أن تعمل وتنجز أكثر من أى وقت سابق، بالرغم من الجائحة التى اجتاحت البشرية حاملة معها ــ إضافة للأضرار الصحية الجسيمة ــ الإرباك، والإرجاء، والإعاقة، والتعطيل، والتباعد والعزلة، والخوف، والأرق،...،إلخ،...فهل لك أن تفسر لى سبب هذا التفاؤل؟...فقلت له فى جملة مكثفة أعيها تماما ما نصه: إنها لحظة افتتان بالحياة...فقال بانتباه شديد: ماذا تعني؟ وأى افتتان يمكن أن نمارسه فى زمن الكورونا؟.



أجبته: بداية، توصيفك غير دقيق فما أشعر به حقيقة وأعيشه ليس تفاؤلا بقدر ما هو نزوع نحو اكتشاف »الحقيقةعلى المستويات: الفكرية، والسلوكية، والحياتية...وأقصد بالنزوع: الدأب أن نرى حقائق الأمور، وأن نسمى الأشياء بمسمياتها. وأن نتحرر من أن نكون رهينة لكل من: المال، والسلطة، والمكانة، والقوة، والعادة، أو كل ذلك، ما يحول دون تحقيق ذواتنا سواء بفعل عوامل داخلية أو خارجية... وهى حالة، تدفع فى مجملها إلى ما يطلق عليه الفيلسوف الفرنسى آلان تورين (95 عاما): إعادة الافتتان بالعالم والحياة.



قبل أن أوضح ماذا أعنى بذلك دعنى (قلت لمحدثي) أسرد تمهيدا لهذا الافتتان: الضرورى والحتمى...لقد حلت علينا الجائحة بالرغم من تحذيرات مبكرة ومتكررة تتوقع قدومها منذ انطلاق السارس مطلع الألفية الجديدة إلا أن الإنسانية التى يقودها ويوجهها منذ عقود تيار جائر للإنسان والطبيعة والبيئة لم تأبه بهذه التحذيرات وما سيتداعى عنها حتما.وظن أنصار الجائرة أن العالم استقر وأن التاريخ قد وصل لنموذجه النهائى المثالى الذى يجب أن يتبناه الجميع: نموذجهم، المدمر أرادوا أو لم يردوا...ولكن ويلات الجائحة باغتت الجميع دون استثناء. وتبين أن الجائرين غير ممسكين بمقادير الأمور كما كانوا يروجون لعقود...والنتيجة أن رفع الغطاء عن كل ما هو مسكوت عنه قسرا تواطأوا...حيث تبين ما يلى: أولا: إلى أى مدى عجز الجميع عن المواجهة. ثانيا: مدى تضاؤل الإنسانية أمام عدو مجهول يختطف من بينهم الأحباء والشركاء والجيران دون أن يعطوا أى فرصة للمقاومة. ثالثا: تعرية أولويات الجائرين التى ليس من ضمنها الإنسانية. والأخطر، فى هذا المقام، هو أن هناك علاقة وثيقة بين «الجائحة» والجائرة (وهو الوصف الذى استخدمناه فى مجموعة المقالات التى تناولنا فيها هذه القضية فى الأشهر الماضية وتعبر عن مجموع العمليات التى يقوم بها الجائرون مضادة فى مجملها لمواطنى الكوكب).. ولا أبالغ بالقول إنها علاقة أكثر من حميمة بين الجائرين وانتشار الجائحة...



فلقد تأكد بحلول الجائحة الفيروسية إنها إحدى إخفاقات الجائرة الرأسمالية فى طبعتها النيوليبرالية السوقية. وذلك من خلال ما يلى: أولا: فشل المنظومات الصحية فى دول الشمال والجنوب، على السواء، فى مواكبة انتشار الجائحة بدرجة أو أخرى. ذلك لأن الضمان الصحى أصبح متاحا أكثر للقادرين مع تراجع النماذج: الديمقراطية الاجتماعية، والإعانية، ،فى توفير الضمان الاجتماعى لمصلحة النموذج »المحافظ الكوربوراتي«(توفير الضمان نظير مقابل).



ثانيا: بالرغم من تقدم البحث العلمى فى المجال الحيوى، فى عدد من البلدان المتقدمة والبازغة مثل الصين والهند، فإن فلسفة هذا التقدم تقوم على الوقاية مما هو بات معلوما من فيروسات وبكتيريات. أخذا فى الاعتبار تأكد أن هذه الجهود تتم ــ فى الأغلب ــ لمصلحة الشركات المتعددة الجنسية العملاقة وغير مسموح للشركات الوطنية أن تقوم بها لسبب أو لآخر. وتوقف هذه النوعية من الأبحاث فى كثير من الدول لأسباب عدة.أى أن فلسفة البحث العلمى، فى حقيقتها يتم توظيفها لمصالح القلة الاحتكارية من جهة. كما أنها لا تعنى بما يُعرف بالأبحاث »الاستباقية« فى المجالات الفيروسية أو الحيوية عموما(كان تركيز الأبحاث الاستباقية فى الولايات المتحدة ــ مثلا ــ منصبا مواجهة الهجوم النووى أو ما يعرف بالحروب الصلبة).



ثالثا: كما كشفت الجائحة الفيروسية، الأكثر بروزا من حيث الضرر المباشر، أنها ليست وحدها إحدى إخفاقات الجائرة الرأسمالية، بل إنها حلقة من سلسلة ممتدة من »الجوائر« المتعددة التى نجمت عن الجائرة الرئيسية التى تعاقبت على البشرية فى السنوات الأخيرة من: »حرائق طبيعية، واختلالات التوازن البيئية، وانتهاكات للموارد والثروات الكامنة«، إضافة للتداعيات اللعينة للأزمات الاقتصادية والمالية.



رابعا: ولعل أخطر ما حاولته دول الشمال: انجلترا بوريس جونسون، وأمريكا ترامب، فى بداية الأزمة، من أن تمارس سياسة حيوية ــ بحسب الفيلسوف الفرنسى ميشيل فوكو (1926 ـ 1984) ــ بترك الجسم الاجتماعى يكتسب مناعته بنفسه مهما يكلف ذلك دولتيهما من خسارة فى الأرواح. وهو ما تمت مقاومته بحسم. وهكذا فى لحظة، وبحسب أحد الأنثروبولوجيين المعاصرين، عادت إدارتا أمريكا وانجلترا بالبشرية إلى عصور غابرة ما قبل حديثة معادية للعلم وجاهلة بضرورته. وهو ما يتجلى يوميا من تناقضات بين ترامب وقوة العمل المعنية بمواجهة كورونا كذلك مع حكام كثير من الولايات فى التعامل مع الأزمة من جهة. كذلك موقف البعض من المعنيين ــ هناك ــ برفض مبدأ التحصن بالأمصال لأسباب دينية.



الخلاصة، تكشفت أمور كثيرة فى الواقع. وتأكدت استحالة أن نعود لحياة تنتهك من قبل السفهاء، ما عرضها لاحتمالية التدمير الذاتى وعليه، أن يتحرر الإنسان من حالة الارتهان، وينشغل بجد فى تأمل الحياة والافتتان بكل ما فيها من مكامن قوة ومواضع جمال...ويعمل بدأب على اختراع الأمل، مجددا، محفزا ذاته وذوات الآخرين على الفعل والتضامن الإنسانى /المواطنى فى شتى المجالات من أجل تجديد وديمومة الحياة /العالم،وتجاوز الجوائر الملعونة وما تنتجه من جوائح مدمرة للإنسان والطبيعة والبيئة.