تشعب الحديث عن المواطنة فى العقود الأخيرة. لم يعد حديثا عن هوية وطنية، يستتبعها حقوق قانونية، بل صار يشمل أيضا حقوقا اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية، إلى حد أن الأدبيات الحديثة فى تناول المفهوم تقرن بين المواطنة والمشاركة، بحيث أصبحت مشاركة المرء فى الحياة العامة عنوانا أساسيا لمواطنته. وبالرغم من ذلك ظل الشعور بالهوية الوطنية أساس المواطنة. هذه المقدمة استدعتها ردود الأفعال التى صاحبت قرار الرئيس التركى رجب طيب أردوغان بتحويل متحف آيا صوفيا- الذى كان سابقا كنيسة ثم مسجدا - إلى مسجد مرة أخرى تقام فيه الصلوات، وهو ما يشكل انقطاعا عن إدراك عالمى بأن هذا المكان المتميز معماريا، العميق تاريخيا، يجسد الثقافة الإنسانية فى تعددها الدينى. ولعل ذلك هو ما أثار ردود أفعال غاضبة فى العديد من عواصم العالم، بما فى ذلك دول غالبية سكانها من المسلمين. ولكن ما يلفت الانتباه، ويحسن التوقف أمامه، هو ردود فعل الكثير من المحسوبين على التيار الإسلامى الذين لجأوا إلى تركيا، ووجدوا أنفسهم فى موقف من يدافع عنها ليل نهار، ربما ردا لجميل النظام التركى حيالهم، عملا بمقولة كارل ماركس الشهيرة «أخضع الاقتصاد البشر، ولكنهم بالفعل يقدمون نموذجا إلى ما يمكن تسميته معاداة الهوية الوطنية. ولا يقتصر الأمر على موقعة آيا صوفيا، فإن هناك مواقع عديدة أخرى تجدهم يتبنون هذا النهج، فهم يبررون الوجود التركى، المدعوم بالميليشيات الإرهابية فى ليبيا، وهو ما يعادى المصالح المصرية، ويشكل محورا لعدم الاستقرار فى العالم، وهم أيضا الذين يشمتون فى الخلافات التى تواجه مصر فى مشكلة السد الإثيوبى، وسبق لهم أن أيدوا التدخل التركى العسكرى فى سوريا، وما نجم عنه من مآس، ويباركون كل الخطوات العدائية التركية ضد مصر، وهى مسألة تخطت حيز المعارضة السياسية التى يدعون أنهم ينتمون إليها، ودخلت فى سياق معاداة الوطن ذاته، والتخلى عن الانتماء للهوية الوطنية، لمصلحة هوية أممية جديدة، ليست إسلامية بالمعنى المطلق، ولكنها هوية أردوغانية أو عثمانية جديدة، تقوم على الغزو، واستخدام الدين أداة فى الصراعات السياسية بما يحمله من مزاج العصور الوسطى، والعمل على تحقيق المصالح الاقتصادية بالقهر بعيدا عن علاقات التعاون بين الشعوب. لا أريد أن أتحدث عما يمكن تسميته الموالاسة، أى غض الطرف عن أخطاء المحبين أو أولياء النعمة، والترصد لأخطاء الآخرين الذين لا يرضون عنهم، فالذين يتحدثون عن تراجع مظاهر حقوق الانسان فى مصر، هم الذين يغضون الطرف، بل ويبررون انتهاك حقوق الإنسان على نطاق واسع فى تركيا على نحو طال كل فئات المجتمع، ولاسيما الصحفيين والقضاة. هذا الحديث لا يعنى أن المجتمع المصرى كاملا، أو يخلو من بعض مظاهر عدم العدالة، فلا يوجد مجتمع فى العالم نقيا مثاليا طوباويا، ولكن ما نعنيه أن نكون منصفين فى رؤية الأشياء. الإشكالية أن أصحاب التوجهات الإسلامية - بهذه المواقف - يتراجعون خطوات كثيرة عما سبق أن تحدثوا عنه، وادعوا الانتماء إليه. عندما كنا ننتقد غلبة الأممية الإسلامية فى أفكارهم على حساب الوطنية المصرية، كانوا يردون بأنه لا يوجد ثمة تعارض بين الأمرين، لكنهم الآن، للأسف، يقفون فى الخندق نفسه مع أممية عثمانية جديدة، لا تعبر عن المسلمين، بل عن زعامات شخصية، ويهفو وجدانهم إلى الدولة العثمانية التى تداعت وانتهت منذ قرن من الزمن، ويرون أن مجدهم ليس فى الدولة الحديثة التى تقوم على المواطنة، ولكن فى استدعاء نماذج غابرة جسدت قيم التخلف الثقافى، والتراجع الحضارى، والتدهور العلمى، خاصة فى مراحل احتضارها الأخيرة. بالتأكيد لن يعيد تحويل مزار ثقافى عالمى آيا صوفيا إلى مسجد أمجاد المسلمين، ويرد لهم هويتهم الجريحة، ولكن ما يضعهم فى مقدمة الشعوب هو الانجاز العلمى، والتقدم الاقتصادى، والانتماء الوطنى. وقد اجتهد بعض الباحثين فى محيط التيارات الإسلامية منذ عقود فى ايجاد صيغ فكرية تجمع بين الهوية الإسلامية والدولة الوطنية الحديثة، ووضعوها فى صيغ ثقافية وقانونية، وعندما تصدى الأزهر الشريف، بقيادة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب إلى وضع سلسلة من الوثائق عقب 25 يناير 2011 غلب على صياغة هذه الوثائق اللغة الحديثة، من حيث الحديث عن المواطنة، والدولة الوطنية، الديمقراطية والتنمية، الحريات العامة، المساواة بين المواطنين بصرف النظر عن الاختلاف فى المعتقد أو الجنس أو اللون أو ما شابه، وغيرها من المبادئ، وقد شكلت فى ذاتها خطوة مهمة فى إدراك مفهوم الدولة الحديثة، وبصرف النظر عن الملابسات العديدة التى أحاطت بحكم الجماعة خلال عام كامل، شكل فى مجمله استدعاء للشعبوية الدينية فى مواجهة الدولة الحديثة، فإن ارتماء بعض التيارات الإسلامية فى حضن الأردوغانية العثمانية، يشكل المحطة الأخيرة بالنسبة لهم، ويقطع عليهم خط العودة لمفهوم الجماعة الوطنية الذى تستند إليه الدولة المصرية.