عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
مدخل لشهادة أحمد أبو الغيط
16 يوليو 2020
أحمد الجمال


الشهادة التاريخية غير الشهادة في المحاكم والنيابة وأقسام الشرطة، حيث قد تكتفي المحكمة بقسم علي كُتاب الله من الشاهد وتراقب مناقشة الادعاء والدفاع له لتأخذ بشهادته أو تغض الطرف عنها، أما الشهادة التاريخية المتمثلة في المذكرات الشخصية التي يكتبها صاحب الشأن، وفي الإجابات عن أسئلة الباحثين والمؤرخين، فيعني بها علم اسمه مناهج البحث، له أدوات ينبغي أن يتسلح بها الباحث والمؤرخ، وسبق أن كتبت تفصيلات في هذا الشأن عندما كتبت مناقشًا شهادات بعض الصحفيين والدبلوماسيين والوزراء. وهنا أود أن أقر بحقيقة عزوفي عن تكرار مناقشة الشهادات التاريخية، خاصة التي كتبها وزراء سابقون وكُتاب صحفيون، لأن الاجتهاد بتطبيق معايير مناهج البحث العلمي ثبت أنه يجلب مشكلات قد تصل إلي أن صاحب الشهادة يعتبر الأمر تهجمًا شخصيًا عليه، وانتقادًا ما كان له أن ينشر.



ثم إنني كسرت ذلك العزوف بعد أن طالعت ما كتبه السيد أحمد أبو الغيط، الأمين العام الحالي لجامعة الدول العربية، ووزير الخارجية المصري الأسبق في الفترة من 2004 إلي 2011، ولهذه المطالعة قصة قصيرة جدًا، إذ كنت أنشر في صحيفة المصري اليوم مقالات عن أرنولد توينبي، فيلسوف التاريخ بريطاني الجنسية، وناقشت فيها فصولًا من كتابه الفذ تاريخ البشرية، وفوجئت بمهاتفة من سيدة فاضلة عرّفت نفسها بأنها من مكتب السيد الأمين العام للجامعة العربية، وأنه طلبني أكثر من مرة ولم يتلق إجابة، وعرفت أن رقمه لا يظهر علي الشاشة، وعادتي ألا أرد علي رنين بغير رقم، حتي وإن كان من الاحتمال أنه من جهة عليا تريد أن تنفحني موقعًا أو تستفيد برأيي، مثلما يقول أصدقاء كثيرون في مقام التندر والمزاح.. ورددت لأجد مثقفًا رفيع القدر يناقشني في فلسفة التحدي والاستجابة، التي أبدعها أرنولد توينبي، وينبئني بأنه سمع لأول مرة عن ذلك المؤرخ الفيلسوف عندما بدأ عمله في الخارجية المصرية، وبعد فترة انتقل لإدارة كان يشرف عليها الأستاذ فؤاد شبل.. ومن فوري أكملت: هو من ترجم مختصر دراسة التاريخ لأرنولد توينبي في عدة أجزاء، واستكمل الأمين العام بأنه بدأ يقرأ ترجمة الأستاذ شبل فوجدها بالغة الصعوبة، فانصرف عنها إلي أن نُقل للعمل في سفارة مصر بقبرص، وجمعته علاقة عمل وصداقة مع مسئول يعمل بالسفارة، ويتبع جهازًا سياديًا مصريًا، وهو من أخذه إلي مكتبة يمتلكها رجل تركي مثقف، وفيها وجد الكنز الذي أسهم في بلورة ثقافته، وهو مجلدات موسوعة دراسة التاريخ لأرنولد توينبي، وتقع في نحو أحد عشر جزءا بالإنجليزية، فانكب علي قراءتها.. واختتم مكالمته بأنه حاول أن يعتمد منهج التحدي والاستجابة في كتابه شهادتي، الذي صدرت طبعته الأولي في يناير 2013.. وبصراحة كان ذلك كافيًا لمضاعفة حب الاستطلاع عندي أضعافًا مضاعفة، لأنني كدت أصيح صيحة يوسف بك وهبي: يا للهول.. وزير مصري، أي مسئول مصري كبير، قرأ توينبي وفهمه واتخذ منهجه أساسًا لما يكتبه.. ثم بصراحة أيضًا فإن حب الاستطلاع والفضول قاداني لقراءة بالغة الصعوبة والإمتاع.. لأنني بادرت من فوري بشراء كتابي الوزير أبو الغيط شهادتي وشاهد علي الحرب والسلام، إضافة إلي أنه تكرّم وأرسل لي أكثر من عشرة مقالات نشرها في إحدي الصحف العربية التي تصدر في لندن، وكلها عن السياسة الخارجية المصرية.. وصار حوار بيننا شبه متواصل نتبادل فيه أسماء الكتب، وأتلقي نصوص كتب بالإنجليزية، منها كتاب عن الإمبراطور جستينيان! ولما وجدت اهتمامه بالتاريخ واضحًا أشرت عليه بقراءة كتب صديقي الأستاذ الدكتور رأفت عبد الحميد أستاذ العصور الوسطي والعميد الأسبق لآداب عين شمس، رحمة الله عليه، وفيها كتاب عن بيزنطة وجده السيد أبو الغيط مهمًا!.



وترددت كثيرًا قبل أن أكتب عن شهادتي أبو الغيط، لأنني ما زلت أنفخ في الزبادي بعد أن لسعتني سخونة احتجاج وغضب وزير خارجية أسبق أُكنُّ له, علي المستوي الشخصي والإنساني, عميق التقدير والاحترام، ولكنني اجتهدت في إعمال قواعد المنهج النقدي الواجب عند قراءة الشهادات، وربما أكون أخطأت أو اجترأت أو توقفت عند تفصيلات، ولكن رد الفعل كان ساخنًا تفوح منه رائحة الشياط! تتوزع شهادة الوزير أبو الغيط عن السياسة الخارجية المصرية من 2004 ــ 2011 إلي ثلاثة عشر فصلًا، بعد الإهداء والمقدمة، ومعها ختام وملاحق تتضمن صورًا وبيانات، وقد كتب أكثر من كاتب صحفي عن هذه المذكرات، وربما بحكم المساحات المحدودة اكتفي بما اعتبره قراءة سريعة انطباعية، وفيها إشادة وتقدير، ونادرًا ما ورد فيها نقد، وهو غير الانتقاد، أو طرحت أسئلة استفهامية وربما استنكارية تقريرية، ولا أدري مسبقًا هل سأضيف بهذه السطور وما قد أستكملها به علي ما كتب أم لا؟! نحن أمام مسئول مصري شاءت ظروف طفولته وشبابه المبكر حتي تخرجه أن يثقف نفسه، فتعددت قراءاته باتجاه العلوم العسكرية والاستراتيجية، وبالقطع فإن هذا اللون من العلوم لا يخلو من الاعتماد علي علوم مساعدة كالتاريخ والجغرافيا بفروعها المختلفة طبيعية وبشرية واقتصادية وسياسية، ومن هنا قد أستطيع أن أفسر انجذاب شاب متخرج حديثا، ويحيطه بريق الوظيفة الدبلوماسية، إلي قراءة موسوعة دراسة التاريخ لأرنولد توينبي، والأكثر لفتًا للنظر أنه، حسبما تناقشنا ذات مرة، كان كلما وجد إشارة لحدث تاريخي عند توينبي فإنه لا يكتفي بمرور العابرين، وإنما يتجه لاقتناء المصادر والمراجع الخاصة بذلك الحدث، مثلما وجد توينبي يتحدث عن حرب البيلوبونيز، فاتجه للبحث عن مصادر ومراجع تلك الحرب، وهلم جرا، لتتكون لديه مكتبة هائلة باللغة الإنجليزية من مجرد قراءة دراسة التاريخ قراءة متأنية مستوعبة. لم أدخل في الموضوع حتي الآن، وقد يظن البعض أن المقدمة استطالت بغير ضرورة، وأقول إن عذري في السطور السابقة هو أنه لا انفصال لديّ بين الكاتب والكتاب، أي بين أبو الغيط ومذكراته، التي هي في مبناها ومعناها ومفاصلها وما يقرأ بين سطورها انعكاس لذاته نشأة وتكوينًا وثقافة ودورًا وسلوكًا وموقفًا من الحياة. وللحديث صلة.