عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
ذكريات الدستور - 3
5 يوليو 2020
د. جابر عصفور


لكن لماذا يريد الأزهر أن يكون سُلطة دينية؟ إن حرصه على إنشاء لجنة كبار العلماء، وصياغته القانونية أوالدستورية لعمل هذه اللجنة يدل على أنه كان يريد أن يكون سُلطة دينية. وأعتقد أن هذا هو الخلاف الأساسى بيننا وبين مشيخة الأزهر. فمشيخة الأزهر وعدد من مشايخه يتصورون لأنفسهم مكانة فى العالم الإسلامى لا تقل أهمية عن مكانة المقر البابوى فى روما. وهناك شواهد متناثرة تدل على ذلك، ومنها اجتماعات القمة التى تجمع بين بابا روما وشيخ الأزهر بوصفهما مُمثلينِ لكيانينِ دينيينِ لهما تأثيرهما الروحى على ملايين التابعين. وحِرص الأزهر على أن يؤدى دورًا سياسيًّا، هو دليل ثانٍ على رغبة الأزهر فى أن يمارس سُلطته الدينية التى يحيلها إلى سلطة سياسية. وأخيرًا فإن خلاف لجنة كبار العلماء مع رئيس الجمهورية نفسه فى مسألة الطلاق الشَّفهي، مثلًا، هو دليل مضاف على الرغبة فى تأسيس هذه السُّلطة وتأكيدها.



وقد سبق لى أن أكدتُ، نقلًا عن الإمام محمد عبده, أن للإسلام أصولًا خمسة، أهمها أنه لا سلطة دينية فى الإسلام، ذلك لأن الإسلام هدم بناء السُّلطة الدينية، ومحا أثرها حتى لم يَبقَ لها عند الجمهور من أهله اسم ولا رسم، فالإسلام لم يدع لأحد بعد الله ورسوله سلطانًا على عقيدة أحد ولا سيطرة على إيمانه، ذلك لأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان مُبلِّغًا ومُذكِّرًا لا مُهيمنًا ولا مُسيطرًا، ولم يجعل لأحد من أهله سلطة أن يحل ولا أن يربط لا فى الأرض ولا فى السماء. وقد أسهبتُ فى شرح هذه الكلمات فى كتابي: هوامش على دفتر التنوير (1993)، وقلتُ:إن أى تأمل بسيط لهذه الكلمات يعنى أن الإسلام قرين الحُكم المدنى والمجتمع المدنى بالضرورة، وأن المسلمين أدرى بشئون دنياهم، وأن لهم أن يفعلوا ما يشاءون بحياتهم ما ظلوا محافظين على إسلامهم، وأن لا سلطة دينية لحُكّامهم، ولا حتى لعلمائهم، ما ظل المبدأ الأصل هو أن الإيمــان يعتــــق المــــؤمــن من كل رقيب عليه، فلا رقيب بين الإنسان والله سوى الله نفســه، وليس لــمســلـــمٍ، مهما عَلا كعبه فى الإسلام، على آخر, مهما انحطت منزلته فيه، إلا حق النصيحة والإرشاد... وأن لكل مسلم أن يفهم عن الله من كتاب الله، وعن رسوله من كلام رسوله دون توسيط أحد من سَلفٍ أو خَلفٍ، فليس فى الإسلام ما يُسمى عند قوم بالسُّلطة الدينية بوجه من الوجوه.



ولم يفكر الإمام محمد عبده عندما قال ما قال فى أن هذا الذى اجتهد فيه منقول عن الغرب أو الشرق. لقد استوحى التراث العقلانى العظيم للإسلام، وتعلم منه أن الحكمة ضالة المؤمن، وأن العلم فريضة، وأن على المسلم أن يطلب العلم ولو فى الصين، وأن دراسة الأمم وتأمل أحوالها، وقياس الغائب على الشاهد، وإعمال مبادئ العقل الأساسية، فريضة على كل من يبحث فى شئون المسلمين ويؤرق نفسه بمستقبلهم، وأن النظر إلى المستقبل لا يقل أهمية عن الاتساء بقيم الماضى العظيمة.



ولذلك تعلَّم محمد عبده وقرأ واطلع على تراث غيره، وتجارب الآخرين فى الحاضر، وحاور وأفاد من المحاورة، ولم يفقد هويته، لأنه لم ينظر إلى الهوية نظرة ضيقة عِرقية، بل قَرَن الهوية بمفهوم إنسانى لا يفارق تأويله العقلانى للإسلام، خصوصًا بعد أن تعلَّم من أستاذه الأفغانى الدلالة الواعدة لمفهوم الإنسان الصاعد والواعد فى عصر النهضة العربى الأول. وكان على الإمام محمد عبده أن ينفى عن الإسلام (فى تأويله العقلانى الاعتزالى له) مفهوم الدولة الثيوقراطية، وأن ينفى عن علماء المسلمين أو صفوتهم صفة الإكليروس. وبقدر ما كان ذلك دعمًا لمفهوم الدولة المدنية، وتأكيدًا للحضور الواعد بطلائع الشورى الديمقراطية والعدل الاجتماعي، كان نفيًا للشُّبه التى تخوَّف منها دعاة الدولة المدنية، خصوصًا بعد أن أصبحوا هدفًا لهجوم دعاة الدولة الدينية من علماء الدين النقليين والتقليديين.



وإزاء هذ الوضع، دخل الإمام محمد عبده المناظرة الشهيرة مع فرح أنطون (عام 1902) تلك المناظرة التى بدأت بالفلسفة الرُّشدية، وانتهت بأصول الدولة المدنية من وجهة النظر الإسلامية فى التأويل الاعتزالى العقلانى الذى صدر منه الإمام محمد عبده. ويقول الإمام صراحة:إن الإسلام قَلَب السُّلطة الدينية وأتى عليها من أساسها. ولم يرَ لهذه السُّلطة وجودًا.



وكان بفعله ذلك يُمايز بين عقلانية الإسلام الصاعدة وتقليدية المسيحية التى منحت لرجال الدِّين سُلطة ليست لهم. ولذلك لم يعد فى الإسلام سوى سُلطة واحدة، هى سلطة الموعظة الحسنة، والدعوة إلى الخير والتنفير من الشر، وهى سلطة خوَّلها الله لأدنى المسلمين يقرع بها أنف أعلاهم، كما خوَّلها لأعلاهم يتناول بها مَن أدناهم... وكل سُلطة يتناولها واحــد مـــن هؤلاء سواء أكان سلطانًا أو قاضيًا أو مُفتيًا أو شيخًا، هى سلطة مدنية قررها الشرع الإسلامي، ولا يسوغ لواحد من البشر أن يدَّعى حق السيطرة على إيمان أحد وعبادته لربه أو ينازعه فى طريقة نظره أو حرية فكره أو حقه فى الاختلاف أو الاجتهاد.



هكذا نفى الإمام محمد عبده إمكان وجود سُلطة دينية فى الإسلام، ولكن الإمام محمد عبده لم يستطع أن يرى تحقق أفكاره فى الأزهر الذى مات غاضبًا عليه. ولذلك نقل محمد رشيد رضا عن الإمام قبل موته أنه كان يشكو من تشدد علماء بلاده بقوله ـ طبقًا لما جاء فى سيرته التى كتبها تلميذه محمد رشيد رضا: إن إصلاح الأزهر أعظم خدمة للإسلام، فإن فى إصلاحه صلاحًا لجميع المسلمين، وفى فساده فسادًا لهم. وإن أمامه عقبات وصعوبات من غفلة المشايخ ورسوخ العادات والتقاليد بينهم. ( وللمقال بقية).