عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
دبلوماسية ما بعد كورونا
29 يونيو 2020
إيمان عارف
> بوتين خلال اجتماع بالفيديو من مكتبه بالكرملين > أ.ف.ب


ما زال العالم تحت حصار وباء كورونا، وربما سيظل على هذه الحالة لفترة طويلة قادمة، فالتداعيات السلبية لهذا الوباء لم تقف عند حدود التحديات الطبية والمآسى الإنسانية، ولكنها امتدت للتداعيات السلبية على قضايا الحرب والسلام والحد من التسلح وحقوق الإنسان، وهو ما دعا كثيرين إلى التحذير من أن العمل الدبلوماسى الدولى بأكمله أصبح مهددا فى عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية بسبب هذا الوباء.



ولعل أبلغ مثال على ذلك، التقرير الذى أعدته صحيفة «نيويورك تايمز»، بالاشتراك مع وكالة أسوشييتدبرس» للأنباء، من نيويورك وجنيف وبروكسل، والذى أشار إلى أن الوباء الذى تعد مدينة نيويورك واحدة من أهم بؤره قضى تماما على الحياة الدبلوماسية فى تلك المدينة التى تعد معقلا لها منذ عدة عقود، والدليل الأوضح على ذلك لجوء معظم هيئات الأمم المتحدة إلى الاجتماعات الافتراضية.



هذا التطور الذى حاصر العمل الدبلوماسى، سواء فى الأمم المتحدة أو فى غيرها، دفع كثيرا من الدبلوماسيين إلى الإعراب عن المخاوف من أن تبادر دول مثل الصين وروسيا إلى ملء هذا الفراغ الدبلوماسى، واستغلال الأزمة من أجل مزيد من إضعاف المؤسسات الدولية التى تعانى بالفعل ضغوطا كبيرة من قبل إدارة الرئيس دونالد ترامب التى تناصبها العداء، أو أن تؤدى كارثة كورونا فى النهاية إلى تعزيز ضمور الدبلوماسية.



وحول هذه المخاوف، يقول رونالد نيومان السفير الأمريكى السابق والرئيس الحالى للأكاديمية الأمريكية للدبلوماسية إن أزمة كورونا صعبت الكثير من الأمور، وسهلت اتخاذ الفيروس كعذر مريح للعديد من الأشخاص لكى يمتنعوا عن فعل ما لا يريدون فعله، موضحا أن محادثات السلام – مثلا - بين الفصائل الأفغانية المتحاربة، والمفاوضات بين جماعة الحوثى والحكومة اليمنية، والجهود المبذولة لوضع حد للحرب فى سوريا، كلها تندرج تحت بند المبادرات الدبلوماسية التى تم تعليقها بسبب كورونا، وفى الوقت نفسه، فإن المحادثات بشأن حقوق الإنسان وقضايا الصحة العالمية، بخلاف كارثة كورونا، والتغير المناخى، والتجارة العالمية، كلها تبدو قضايا مؤجلة إلى حين.



والحديث عن التحديات القائمة كان له نصيب من التحليل أيضا فى صحيفة «جيروزاليم بوست» الإسرائيلية، التى تناولت فى تقرير لها بعنوان «دبلوماسية ما بعد كورونا»، فذكرت أن العمل الدبلوماسى ليس فى أفضل حالاته بسبب هذا الوباء العالمى، كما أن معظم المهن ستتأثر وستشهد تغيرات، بما فى ذلك مهنة الدبلوماسية، بحسب تقرير «جيروزاليم بوست»، والصراع بين الدبلوماسية التقليدية والدبلوماسية الحديثة سينتهى بانتصار غير مشروط لصالح الأخيرة، وسيتعين على الدبلوماسيين إما تبنى هذه الحقيقة الجديدة، أو أن يسلكوا سلوك الديناصورات التى لم تستطع التكيف أو لم تكن مهيأة لهذه القفزة التطورية.



ومن وجهة نظر مايكل برودسكى كاتب المقال، فإن هذه التغيرات ستؤثر على جوهر وشكل العمل الدبلوماسى، وطرح بعض الأمثلة على التغيرات الرئيسية الناجمة عن ذلك:



- فأولا، فى مواجهة الصدام بين اتجاهين متصارعين، وهما تزايد الاعتماد الدولى المتبادل من جهة والتحركات نحو سياسة الانعزال من جهة أخرى، سيصبح الدبلوماسيون هم الأبطال المحركين للمفهوم الجديد للعولمة، وسوف يعيدون تشكيل القواعد الجديدة لفكرة «عالم بلا حدود».



- وثانيا، أهمية القوة الناعمة للدبلوماسية ستتزايد، وفوق كل ذلك، ستظهر أهمية القدرات العلمية والتكنولوجية، وسيحتاج الدبلوماسيون لاستخدام المميزات التكنولوجية لدولهم لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية، والدول التى تمتلك أنظمة رعاية صحية حديثة وتمتلك قاعدة علمية وتكنولوجية قوية ستكون لها ميزة إضافية على الدول التى تعتمد على مواردها الطبيعية فقط.



- ثالثا: قابلية الاستخدام الكفء للشبكات الاجتماعية، مع ضرورة الابتكار، ستكون صفات إلزامية فى دبلوماسيى المستقبل، فتكنولوجيا المعلومات كانت دائما جزءا من الدبلوماسية الحديثة، ومع انتهاء وباء كورونا ستظل هذه المساهمات تلعب دورا محوريا فى عمل الدبلوماسى.



- رابعا، التحديات الصحية المتزايدة أصبحت الآن تتخطى الحدود القومية والوطنية، الأمر الذى أوجد طلبا متزايدا على تضافر الجهود السياسية، فضلا عن التنسيق الدبلوماسى على المستوى العالمى، والدبلوماسية الصحية ستصبح مهنة منفصلة، وفى معظم البعثات الدبلوماسية سيكون هناك مناصب للملحق الطبى أو الدبلوماسيين الذين يمتلكون معرفة طبية، أو أطباء يحصلون على بعض التدريب الدبلوماسى.



- خامسا، دور المنظمات الدولية والوكالات المتخصصة مثل منظمة الصحة العالمية سيصبح أكثر تأثيرا، فالدول سيتعين عليها زيادة التبرعات المقدمة للمنظمة لكى تصبح جهودها أكثر جدية، كما أن تأثير المنظمات المالية الدولية سيزيد بشكل ملحوظ، وستتولى تحديد الاستراتيجية العالمية فى التعامل مع تداعيات هذا الوباء.



- وسادسا، فسوف يتعين على الدبلوماسيين العمل على حل عدة قضايا تتعلق بحركة المواطنين فى أوقات الأزمات، وأحد البدائل المطروحة سيكون من خلال تقديم تأشيرات طبية، تسمح بعبور الحدود لهؤلاء الذين يتم التأكد من أنهم لا يحملون العدوى الفيروسية، كما سيشارك الدبلوماسيون بفاعلية فى وضع تعريفات للقواعد الجديدة، مثل إرشادات الفحص الطبى قبل الرحلات الدولية وإيجاد قاعدة بيانات حول صحة مواطنى الدول الأخرى.



- أما سابعا وأخيرا، فسوف تصبح البروتوكولات الدبلوماسية أكثر مرونة فى ظل حقيقة أن معظم اللقاءات ستتم عن طريق الفيديو، وهو ما سيؤدى لاحقا إلى تغيير النمط المعتمد للملابس الرسمية والبروتوكولات المتعلقة به لاحقا.



وحول المزيد من تداعيات هذا الوباء على العالم، تشير مجلة «ذا ديبلومات» المتخصصة فى قضايا آسيا والمحيط الهادى، إلى أنه بالرغم من التأثير الكبير لهذه الكارثة على العلاقات الدولية، فإن السياسة الخارجية الصينية ما زالت تواصل نشاطها فيما بات يعرف بـ»دبلوماسية الكمامات»، وهو المصطلح الذى أطلق على المساعدات الطبية التى تقدمها الصين لعدد من الدول الأوروبية، والتى تشمل إلى جانب الكمامات والمستلزمات الطبية الأطقم الطبية اللازمة للمساعدة فى احتواء آثار الوباء، وهو ما دعا البعض للحديث عن ملامح أساسية لهذه الدبلوماسية يمكن إجمالها فيما يلى:



الملمح الأول هو أن هذه التبرعات الضخمة تساعد فى إعادة رسم صورة الصين الحديثة، بحيث تقلل من حجم المخاوف التى تلازم تحركاتها على النطاق الدولى، ففى إيطاليا التى تبدى قدرا من القلق بسبب مبادرة «الحزام والطريق» الصينية، من المنتظر أن تلعب المساعدات الصينية دورا فى كسب قلوب وعقول العديد من المواطنين الذين فجعوا من هذا الوباء، وفى الوقت الذى يصف فيه الغرب ما تفعله الصين بأنه نوع من المناورات السياسية، فإنها تأمل وعن طريق توزيع هذه المساعدات فى بعض المناطق المختارة إلى ضمان مصداقيتها، وتسعى لتقديم نفسها كدولة قادرة على مواكبة تحديات القيادة العالمية وعلى توفير المساعدات للأصدقاء، بشكل يوضح الفارق بينها وبين بطء تحركات كيانات دولية كبيرة مثل الاتحاد الأوروبى بسبب البيروقراطية، أو الميل إلى الانعزالية مثل الولايات المتحدة، كما تضع نفسها فى إطار الدولة البراجماتية والشريك المتفاعل، وتقدم نفسها كبديل قابل للاعتماد عليه للدول التى تسعى للحصول على مزايا الانضمام للاتحاد الأوروبى، كما أن السياسة الصينية، وهى تأخذ على محمل الجد تأمين الاحتياجات الطبية لهذه الدول، تعمل على فتح عدة مناطق أمام الاستثمارات الصينية، وإلى تحويل هذه الدول الأوروبية إلى بيئة أكثر تقبلا لوجود الشركات التكنولوجية الصينية العملاقة.



أما الملمح الثانى، فيتعلق بإيجاد علاقات طويلة الأمد ومستقرة مع هذه الدول، فالصين ظلت لفترة طويلة تعانى من النقد المستمر لسياستها فى عدد من الدول التى تمول مشروعات كبيرة بها بقروض ضخمة، حيث يرى البعض انها تثقل كاهل هذه الدول بمثل هذه القروض طويلة الأمد، ومن ثم، فإنها، ومن خلال تقديم المساعدات العاجلة فى المواقف الحرجة مثل الكوارث الطبيعية والأزمات الصحية مثل وباء كورونا، فإنها تؤمن قدرا من تقبل السكان المحليين لها، كما تؤمن الحصول على واردات من الصين بشكل ثابت ودورى.



أما الجانب الآخر، فهو تصاعد نفوذ المجتمع المدنى الصينى سواء داخليا أو خارجيا، فحتى عهد قريب كان هناك توافق دولى على أن الصين تفتقر لوجود مجتمع مدنى ناضج، ولكن مع تصاعد نجاح الشركات الصينية التكنولوجية العملاقة، فإن هذه الكيانات الضخمة ستسهم فى تغيير صورة المجتمع المدنى وعلاقاته بنظرائه فى الخارج.



وبشكل عام، فإنه يتعين على المشككين فى دبلوماسية الكمامات الصينية، كما يقول براين وونج كاتب التقرير، أن يعترفوا بأنها جزء من السياسة الخارجية المعاصرة، مثل خطة «مارشال» الأمريكية لإنعاش أوروبا واحتواء النفوذ السوفييتى عقب الحرب العالمية الثانية، والدور الذى لعبه الاتحاد الأوروبى فى تنسيق الجهود الدولية لاحتواء وباء إيبولا عام 2014.



وبغض النظر عن فحوى التقارير الثلاثة، فإن العالم يبدو إلى الآن مضطرا إلى اللجوء لنوع جديد تماما من العمل الدبلوماسي، بكل ما فيه من أوجه قصور، إلى أن تنزاح الغمة، فى موعد لا يعرفه أحد حتى الآن!