عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
هُوَّ الَّذِى وَصَّى؟
12 مايو 2020
◀ عبد الجليل الشرنوبى


فى معارِكِ الوُجود تَطُولُ الجولاتُ زمانًا، وتتسِع رُقَع الحلباتِ مكانًا، حتى يَمِلكَ المُعْتَصِم بالحياة وَعيَ الزَوّدِ عَن حماها .. كُلِ حماها، وساعَتهَا تتأهبْ كُل الثغور بتَنَبُّهِ القائمين عليها، ما يورثِ قُوَةً مُتَكامِلَة الأداء حيث يَدُ تَحمِلُ سلاحَ الحماية وثانية ترْفَعُهُ تشييدًا للقواعِد، وثالثَة تغزو بِهِ كَل أودية النماء، وهكذا يدٌ إلى جوارها مثلَها ومن خلفهما أخرى تَنتفض الأوْطان بدنًا واحِدًا فى وَجِه كُلِ مَهَدِّد لوجودها.



حين تَطوُلُ الجولات فى معاركِ الوجود، يشِيعُ فِعلُ البَذِّلِ بالروحِ إجراءً تَقْليديًا تَحْسِمُهُ عقيدةُ الجيوش الوطِنية فى نفوس قادتها بكُلِ مُستوياتهِم قبل الجُنّدِ، فلا يفْزَع الآمنون وهُمْ على ثغور أمَتِّهم يسهرون، ولا يُنَال ثَغرٌ وَطنيٌ وفى أبدانِهم قلبٌ ينبض، وهو ما يُحَوِّل المَوتَ منْ مصيبَةٍ مؤَجَلةٍ إلى صاحبٍ يَحْضُرْ ساَعةَ البَذّلِ ليَشْهَدَ من أقَبَلَ مُفتديًا كُلَ الآمنين، بوَجْهِ مَنْ لا يرعى فى وَطنٍ أو مواطنٍ إِلًّا ولا دين، وفى هكذا مقامْ تُصّبِحُ مسئولية المُفوَضْ بالإدارة أَنْ يَحْمى بَذْلَ الباذلين من إِلْفِ التكرار بعناوين الأخبار. مُنذ يناير 2011 وجولات معركة الوُجود المصرى تدور على خريطة عالمٍ جديدِ يتشكل، تِسّعُ سنواتٍ تتابعتْ فيها الأخبار حامِلةً بياناتٍ رسمية متتالية عن حصاد المعارك المفتوحة والمباشرة، حيثُ طرفينِ مُحَدَدين أحدهما وَطَنٌ وشعب والآخَرُ تنظيماتٌ دينية فى القَلبِ مِنها الإخوان، تَتَعَدَدْ شكلًا مُسمياتُها وقياداتُها ونوافذها، وتتوحَدْ مناهج تستخدم الدين، وأدوات تستثمر التَديُّن، وشعارات تُغازل المُتَدينين، وغايةُ الكُلِ واحدة وهى جِهاَدُ أعداء الدعوة فى وَطَنٍ حُدوده بيعة.



كُلَما اشتدت معارك الوجود الوطنى قسوة، واستعرتْ نيران جولاتها، يُصبِح منْ الفَرّض أن نَتَذَكر ثوابتها، وأوَّلُ هذه الثوابت أن يستوعب صاحب السيادةالشعب- أنها «معركة» وليست مُنازَلَةِ من أى نوعٍ أو مُنافسَة. ثم هى معركةً وجودٍ وليستْ مُجَرَد فِعلَ عصاباتٍ أو مجموعاتٍ مُسلَحة، والفيصَلُ فى ذلك ولاء طرفيها، حيث من أقسمَ بالولاء لوطنٍ وشَعب، ومنَ بايعَ مُرشدًا أو أميرًا أو قائدًا.وهى معركَةُ وجودٍ مُمْتَدة فأطرافها قديمةً النشأة يصل عُمرُ أقدمها الإخوان إلى قرنٍ إلا قليلًا، ولنْ يتوقفَ توالدْ أحدثها. ثم يأتى كَونُها معركة وجودٍ ممتدة وعالمية، فلا يُمْكِن تحديد هوية قواعدِ هذه التنظيمات فى نِطاقِ نشاطها، إذ إنَّ أوَل ما يُزرع فى وعيهم أن وطنهم الإسلام، ولا يُمْكِن تَحديدُ أبٍ شرعى لها، فأوَّل منْ رعى نشأة هذه التنظيمات كان المُحتَلُ الأممى الذى كان يحتل أوطاننا العربية ومنها مصر.



وتستمر جولاتُ المعارك المصرية دعمًا للمصير، وتحفيزًا للتذكير، ليَجِدَ كُلْ سائرٍ نحو مصرَ المسير، دَليلُهُ فيها مِصباحُ دربٍ زيته دمٌ طازجٌ، يُخَضّب صُبحًا نرجوه، شهيدًا تِلَوَ شهيدٍ يكتُب وَصيةً ما لا يَتمُ الإيمان بالوطن إلا به، قاصدًا الوعى بشمول المعركة، فلا تحسبن الذين قُتِلوا فى سبيل الوطن أمواتًا لأنَّهُم منْ سَهروا يحملون السلاح، بَلْ هُمْ الهَدَفْ الأَّول فى قائمة أهدافٍ جميعها تتحرك فى نَفس الوقت، فلا فَرقَ فى معركة الوجود الوطنى بين رصاصة تستهدف جُنديًا أو ضابطًا، وبين ثانية تنطلق مُستَهدفةً إشاعة الفزع شائعات وتشويهات وتشكيكات، وثالثةٍ تنطلقُ مُستهدفةً كلَ أزمة، ومستثمرة أية أوجاع، ومُتاجرةً بعوار الأداءات، وتافِه المُنتجات، وأخرى تُفَرق لُحمةَ الوطنِ دينًا أو عِرقًا أو عصبيات، وهكذا تتوَزعُ رصاصات أعداء المصير لتنال كُلَ مؤمنٍ بالوَطن وصولًا إلى أقصى صفوفه.



فى معرَكة الوجود المصرى الدائرة إلى لحظتنا هذه، دمٌ طازَجٌ يُخَضب ثوب بهية ممهورًا بأسماء شُهدائنا الأبرار الذى قضوا فى بئر العبد، ولنْ تَعَدَم بهية بنيها حين يدعو داعى الفداء، غير أن للدم صوتَ الموصى فى روع مَنْ بالوطن آمن، ولَهُ قُدسيَّة الوصية فى عُنُقِ مَنْ على أى ثغرٍ يقف، فلا يَرضى المُوصى باحتفاءٍ المُعزين، ولا يَقبَلُ خطاباتِ الاستهلاك نعيًا، ولا يُرضيه شارات حدادٍ سوداء على صورٍ أو فى شاشات، جميعها مُجرَدَ حالاتٍ آنية تطويها الأيام بِفِعلها.



حين يوصينا الذى بالروح جاد، يَنْشُد دق كُلِ نواقيس التَنَبُه، لتتأهب الرعية قبَل الراعي، ويُستنفَر صاحب السيادة جنبًا إلى جنب مع كلِ مُكَلفٍ بإدارة، ويتأهَلَ كُلٌ فى مَجاله وعلى أى ثَغرٍ، لمواجهة رصاص معركة وجود مفتوحة عالمية وشامِلة، يجود فيها بروحه الأكَرم، ويجود فيها كُلٌ بما يملِك، فالكُلُ للوَطنِ راع والكُلُ مسئول عما أُستُرعي، وبذا يأمَنُ من فى جبهات القتال يُرابط، ألا يؤتى الوطَنُ من خِلاف، وألا يطوى التفريط بغير وعيٍ شرفَ التضحيات الواعيات، إنَّها وصيَّة الدم، دمُ الشهيد الذى بوَطنِه استوصى ولنا وصَّي، فيارب اجعَلنا عِند قدر أمانة دم شهدائنا الأبرار.