عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
أبناء حورة
8 مايو 2020
عبدالرحيم كمال


»1»



وحينما ترك الإنسان الشوارع سنة 2020 والتزم بيته لم تستعد الارض عافيتها فقط، بل استعادت أيضاً حشرات وحيوانات عافيتها بشكل مُبالغ فيه، فظهر الصرصار الذى يمتد طوله مترين والنملة الضخمة وصارت السحالى تستريح فى الميادين الكبرى الواحدة منها فى حجم النافورة ومرت الخنافس بأرجلها من فوق البنايات الصغيرة ولا نقول الشاهقة حتى لا نقع فى المبالغة، وكانت معارك شرسة فى السنة الحادية والعشرين بعد الألفين بين البشر وبين ما تضخم من تلك الكائنات انتصر فيها البشر فى بعض القارات وانتصرت الحشرات والحيوانات فى قارات أخرى، أما ما حدث فى إفريقية وفى شمالها تحديداً فهذا هو الأكثر عجباً والأشد غرابة.







«2»



مع مرور السنين ينسى الناس وينكرون ما حدث وهذا ما توقعته حينما بدأت الحكى بالأمس عما جرى بين البشر والحشرات والحيوانات المتضخمة سنة 2020، وليس معنى أن تمر عشر سنوات كاملة أن يفقد البشر ذاكرتهم لكنهم هكذا دائماً تجاه الأحداث المرعبة، لا يهم سأواصل شهادتى على ما جرى وما أتذكره أيا كان رد الفعل، البعض يشكك أيضا فى ذاكرتى رغم أننى بذاكرة قوية ومازلت أتذكر تلك الواقعة كأنها حدثت بالأمس.



ظهرت فى ثلاث ميادين كبرى أو ربما أربعة فى ثلاث أو أربع عواصم إفريقية تطل على البحر المتوسط بيضة ضخمة كبيرة قيل إنها كانت فى حجم مجمع التحرير أو ربما ضعفه لا يهم المهم أنها ظهرت ثابته مستقرة فى المكان، وحينما زال الرعب عن الناس واقتربوا قليلاً اكتشفوا أنها تنبض، نعم بيضة بحجم مجمع التحرير تتوسط الميدان وتنبض نبضاً منتظماً، خاف الناس وانتشرت الأحاديث وتناثرت حول البيضة النبّاضة ولكن الرعب تملك قلوبهم تماماً حينما همس أحدهم يحكي: لقد اقتربت منها جداً جداً، كنت على مسافة متر واحد وأصغت السمع جيداً، لم يكن نبضًا فقط بل كان همساً بأسماء، أسماء محددة، أسماء لرجال ونساء، وحين صمت علا صوت الخوف ولكن الغير متوقع بالمرة. هو ما حدث بعد ذلك.







«3»



كانت ليلة صعبة على كل سكان العاصمة طوابير ممتدة لأكثر من عشرة كيلو مترات ويبدأ الطابور بالصبى المقترب من البيضة الضخمة يُقرب أذنه وهو على مسافة متر يسمع نبضها وهمسها بالإسم فيميل على أذن الواقف خلفه ويهمس له وتنتقل الهمسة من فم إلى أذن إلى فم إلى أذن، وآخر الطابور يجلس من يسجل تلك الأسماء فى دفتر، لقد سجلوا من العاشرة مساء إلى قُرب الفجر أكثر من خمسة آلاف اسم وكل اسم تم تسجيله كان يعنى أن عائلة بأكملها لن تنم هذه الليلة ولا الليالى المقبلة، وكثرت التوقعات والتخمينات حول تلك البيضة النبّاضة ومتى وُضعت فى هذا المكان؟ ومن هى أمها؟



لابد أنها طائر ضخم يُشبه طائر «الرُخ» فى الحكايات القديمة ومتى سيهبط ذلك الطائر الأنثى ليرقد على بيضته؟ وهل سيتحمل الناس رؤية ذلك المنظر المفزع لطائر عظيم بجناحين يُغيبان السماء والشمس إذا هبط نهاراً؟ ويغرق الميدان فى الظلمة التامة إذا هبط ليلاً وماذا تعنى الأسماء التى تهمس بها نبضات البيضة العملاقة؟ هل هى نهاية أصحاب هذه الأسماء؟



وبالفعل بدأ أصحاب تلك الأسماء ينتهون نهايات مأسوية وزاد التوتر والرعب وقرر أحد المتمردين أن يأتى ليلة بمرزبة من حديد ويهوى بها على تلك البيضة مهما كلفُه ذلك، كان قلبه يحترق على موت وحيده والذى ذكرت البيضة اسمه قبل ثلاث ليال ليراه بعدها وهو يقفز من فوق السطح فجأة وبلا مبرر،



حمل الرجل مرزبته وإتجه للميدان واقترب من البيضة النبّاضة وارتعش جسده وهو يقترب أكثر ويرفع المرزبة ليهوى بها على البيضة وإذا به.







«4»



ويرفع المرزبة ليهوى بها على البيضة وإذا به.... قاطعنى أحدهم يسألنى فجأة: هل حدث ما تحكيه فى كل العواصم الأربعة بنفس التفاصيل؟ وهل ذهب فى كل عاصمة شخص يحمل مرزبة حديدية ليحطم البيضة النبّاضة؟.



حاولت التذكر وكان الأمر شديد الصعوبة فمنذ أن صدر الأمر الدولى العالمى رقم 12215 لسنة 2022 بمنع التصوير بكل أنواعه على أرجاء المعمورة وحُرق ومُسح كل ما تم تصويره فى السابق وتجريم وحبس مدى الحياة لكل من يحتفظ بصورة لديه حتى لو كانت صورة شخصية وقتل وحرق من يمارس المهنة سراً وأصبح العالم بلا صورة كان الأمر فى بدايته مُرعباً لكن الناس مع الوقت اعتادوا على الحياة بدون صور وغلت جداً أثمان المرايا،



أتذكر جيداً ذلك المصور العجوز الذى تشبث بالكاميرا خاصته وهو يصرخ: الصورة لا تنقل العدوى هذا كذب.. الصورة لا تنقل العدوى وكان هذا آخر ما قاله قبل أن يُحرق هو والكاميرا فى ميدان عام والرجال يهللون والنساء تُزغرد.



أفقت من ذكرياتى وعدت للسؤال الذى أبحث عن إجابة له هل فعل كل الناس ما فعل ذلك الرجل؟ وحملوا فى كل البلدان مرزبة حديدية ليكسروا بها البيضة النابضة، لا أظن فلقد تناقل البعض مثلاً أنهم فى «تونس» أحاطوها بسور أبيض مربع وجعلوها مزاراً سياحياً وكانت للمزار قصة مرعبة سنصل إليها، وفى» المغرب» قيل أنها صارت مكاناً غامضاً أقام على مبعدة منه بعض حاملى المباخر يُتمتمون، وكان لهم قصة أعجب. أما فى «مصر» التى مازلنا نحكى منها فقد حمل الرجل المرزبة ورفعها ليهوى بها على البيضة.







«5»



وإذا به يجد السماء قد أظلمت من فوقه إظلاماً تاماً وصوت رفرفة يجعل الهواء يكاد يقتلعه من مكانه، كانت المرزبة لحظه العسير قد طاشت من يده من الخوف ووقعت على البيضة وكسرت جزءا صغيرا من قشرتها بينما الهلع كان أوشك أن يُوقف قلبه عن النبض وتباعد الناس للوراء وهم يصرخون، واستقر الطائر الأنثى الضحم على أرض الميدان فوق بيضته وهو ينظر بغضب شديد نحو المسكين ضئيل الحجم الذى طاشت مرزبته، لم تكن رأس الطائر بالرأس العادية للطيور أبداً، كانت رأس سيدة ثلاثينية بشعر طويل بنى ناعم مُنسدل وعينين بنيتين متسعتين ورموش طويلة سوداء ووجه أبيض مدور وخدود كلثومية وشفاه غليظة وكان لها نهدين كالنساء ولكن يحيط بهما الريش كفستان من فساتين النجمات فى أوائل القرن وأخذت تُحدق والرجل يتراجع ثم تنظر للبيضة فى حضنها بحنان ثم تُعاود التحديق للرجل الذى خارت قواه تماماً ونام على الارض ورفع يديه لأعلى مستنجداً منها بالسماء ومدت أنثى الطائر فمها إلى ساقيه والتقمتهما وبدأت فى تكسير بيضتها برأسه، كانت ترفع جسده فى الهواء وتهوى برأسه على قشرة البيضة مرات متتابعات والناس تصرخ، إلى أن نجحت تماماً فى كسر بيضتها وألقت بجثة المسكين بعيداً بكل قوتها فهوت فى نهر النيل كحجر طائش ونظر الناس إليها وإلى بيضتها المكسورة ليروا داخلها ما لا يتصوره عقل على الإطلاق.







«6»



ونظر الناس إليها وإلى بيضتها المكسورة ليجدوا داخلها ما سنسميه مجازاً بالأطفال السبعة وليس الأفراخ السبعة، لقد كانوا سبعة أطفال بالفعل رأس وذراعان ويدان وقدمان، كان الطفل الواحد يتجاوز طوله المترين ونصف المتر ويصل وزنه الى المائة وخمسون كيلو، عُراة يختلفون عن أمهم فهى برأس أنثى بشرية وهم برأس طائر عادى طائر كبير الرأس بمنقار أزرق.



نظرت الأم لهم جميعاً بحنان بالغ وفاضت دموعها وكتمت الناس أنفاسها وأشارت الأم بجناحها الأيمن فتقدم أكبرهم وأضخمهم وأزال آثار البيضة المكسورة وتوسط الميدان والناس فى ذهول راكعين وبدأ خطبته وصوته يتردد صداه فى الميدان وقال:



«بسم الله... لم نقتل منكم إلا من حاول قتلنا، رجل أقبل يريد تكسير بيضتنا فانتقمت منه أُمنا، وقبل ذلك لم يمت منكم إلا من خالطه الوهم ولعبت برأسه الشياطين، فما تلك الأسماء التى سمعتموها إلا همسات كنا نهمس بها أوقات لعبنا داخل البيضة، وقادكم فضولكم لسماعها، وقادكم وهمكم إلى الموت بسببها، نحن الأخوة السبعة أبناء السيدة المحترمة «حورة» سنحكمكم سبع سنين بالعدل إذا عدلتم، وبالفضل إذا تفضلتم، وبالظلم إذا ظلمتم، فما نحن إلا انعكاسأ لأفكاركم وسلوككم فإرجعوا إلى بيوتكم وكونوا حذرين فهذا هو اليوم الأول فى السنة الاولى من حكم أبناء «حورة»».



صمت زعيم السبعة وقبلت «حورة» أبناءها السبعة فى مناقيرهم الزرقاء وفردت جناحيها وطارت وسقط من عينها دمعة أثناء طيرانها على أحد المتابعين لها فاغتسل بالماء المالح الجارف الكاوى الذى كوى جسده وأصابه بالحروق الخطيرة، وإلتزم الناس بيوتهم ولم تتدخل الحكومة الموجودة فى وقتها فى شيء وكان التواصل الإعلامى فى ذلك الوقت يأتى عبر رسائل مكتوبة تظهر على الحائط الموجود فى كل غرفة معيشة، حائط زجاجى تُسلمه الدولة بشكل إجبارى لكل عروسينن فى بيتهما الجديد المجانى المكون من غرفة نوم وغرفة معيشة وحمام ومطبخ وفى غرفة المعيشة يتم فى ليلة الزفاف تركيب حائط الأخبار الذى منه يعرف الناس الاخبار، ومنه أيضاً وعبره تعرف الدولة أخبارهم وإذا أردوا شيئا أرسلوا عبر «كى بورد» فى الحائط أسئلتهم المحدودة والمحددة لا تتجاوز السؤال الواحد فى اليوم ولا يتجاوز عدد كلمات السؤال الخمس كلمات، كانت الرسالة ليلتها على حوائط الجميع واضحة،: «تم تسليم الإدارة للسادة أبناء السيدة «حورة» السبعة وعلى الجميع التزام التعليمات التى سترد تباعاً» ولم يرد الناس على تلك الرسالة بأى سؤال، فقط التزموا الصمت وحرمهم الترقب من النوم.







«7»



منذ أن أختفى الإعلام بصورته القديمة التقليديه واختفت معه الصورة ونشرات الأخبار التى سيطرت على عقول الناس حتى نهاية الخُمس الأول من القرن الواحد و العشرين وصار دكان «حليم» فى قلب العاصمة بمثابة وزارة إعلام مصغرة، «حليم» الرجل الستينى النحيف الذى يبيع الخردوات وألف صنف وصنف وتبغ البايب والذى عاد المشروب الدخانى الوحيد المسموح به منذ مُنعت الشيشة والسجائر منعاً تاماً وتم تحريمهما تتجمع عنده فى الداخل مجموعات صغيرة من الزبائن يتحدثون همساً ليدلى لهم «حليم» بدلوه بعقلية رجل خبير عاصر الإعلام قديماً وأزمة «كورونا» وكل تلك الأحداث الكبرى التى غيرت مجرى التاريخ، كان الحديث هذه المرة هامساً جداً وحزيناً لايكاد يُسمع، كان يحكى عن ثلاثة جيران تم اقتيادهم بالأمس إلى الميدان وألقى بهم إلى «المقر»، كانت كلمة «المقر» هى الكلمة الجديدة التى أُضيفت لقاموس الناس وهو بقايا وأطلال البيضة الكبيرة النباضة وهو عدة غرف بلا باب كونها تكسير البيضة العشوائى وهمس «حليم» مُكملاً: أنا أيضا تعجبت كيف تكون تلك البيضة بهذه الضخامة ولا نجد فيها إلا سبعة عمالقة لابد أنها كانت مُعدة خصيصاً بهذا الحجم لتكون هى «المقر» همس «شعبان» «الصُرماتى» نعم صُرماتى فقد عاد الناس لتفصيل الأحذية بعد أن اختفت «البراندات» والأشياء الجاهزة تماماً وعاد كل شيء للتفصيل والتصميم اليدوى، هتف «شعبان»: تنحرق البيضة واتساعها والمقر، المهم ماذا حدث للثلاثة الذين اقتادوهم وما هى جريمتهم وما هى العقوبة؟



هز» حليم» كتفيه وأخذ نفساً عميقاً من البايب: الأغرب مما حدث للثلاثة هو طريقة الاستدعاء نفسها يا «شعبان»،



ازداد فضول المستمعين وقلقهم وتوترهم واتسعت عيونهم وعجزت ألسنتهم حتى أن يقولوا لـ «حليم» أكمل، لكنه تلفت حوله وأخذ نفساً جديداً وقال فى شرود: الباب يطرق والرجل يفتحه ولا يجد أحداً أمامه، لكنه يخرج ويواصل السير قسراً حتى يجد نفسه عند أطلال البيضة «المقر «، فيبتسم له أحد الأخوة السبعة ويأمره بالدخول إلى غرفة من الغرف المفتوحة والجلوس فى انتظار الحُكم،



فقد «شعبان» قدرته على الصبر وماذا كانت جريمتهم يا «حليم» نشفت ريقى؟



صمت» حليم»طويلاً ثم همس فى شرود: إجابة سؤالك هذا يا «شعبان» هى فعلاً العجب العُجاب.







«8»



همس «حليم» بصوت معدنى جاف: لا أدرى هل يصح لى أن أقول لكم أم لا؟، استمتع «حليم» بالفضول المشتعل فى عيون السميعة ثم واصل فى هدوء لا يخلو من توتر: لقد وصلتنى المعلومة من زوجة أحدهم وحلفتنى أن لا أفشى السر لكننى سأفشيه.



حملق فى وجوههم ثم اختار نبرة أكثر صدقاً وزينها ببحة خفيفة: سأُفشيه من أجل مصلحة الجميع، مصلحتكم ومصلحتى.



ثم توقف عن الحديث واتجه إلى الباب وتأكد من عدم وجود غريب متلصص وعاد وجلس وسطهم وهو يُمسك «البايب» دون أن يسحب منه أنفاسه وبدأ فى الحكى المتمهل: لم يدر الثلاثة الذين ذهبوا بأرجلهم إلى المقر ما هى تهمتهم، وظل كل واحد فى حجرته صامتاً دون أن يدخل عليه أحد، وبعد مرور سبع ساعات دخل على أولهم أحد أبناء «حورة» السبعة وسأله سؤالا واحدا: هل أدركت ما هى جريمتك؟ فيهز الرجل رأسه بالنفى ويخرج ابن «حورة» ويتركونه ساعة ثم يدخل ابن آخر ويسأله نفس السؤال والرجل يهز رأسه بالنفى سبع ساعات على رأس كل ساعة يدخل إبن من الأبناء السبعة ويسأل نفس السؤال ويخرج وهكذا فعلوا مع الجيران الثلاثة ثم اقتادوهم إلى ساحة المقر فى منتصف أطلال البيضة حيث جلس السبعة على منصة مهيبة، ثلاثة من اليمين وثلاثة من اليسار يتوسطهم الزعيم وأمام منقاره ميزان صغير كميزان الذهب ودفتر كبير مفتوح وعليه ريشة ساكنة والثلاثة المتهمون ينظرون فى قلق وتكلم الزعيم ومع كلامه كانت الريشة تعلو فوق الدفتر وتهبط وقال: لقد حذرناكم.. وقلنا سنحكمكم بالعدل إذا عدلتم، وبالفضل إذا تفضلتم، وبالظلم إذا ظلمتم، وبالأمس بُلغنا أن أحدكم نوى أن يسرق سطح جاره بينما نوى الثانى أن يلقى بطفل جاره الذى ما زال يحبو فى النيل ليحرق قلبه بعد خلاف فى شراكة على مال بينما نوى الثالث أن يمر على زوجة جاره كعادته معها وحينما أحضرناكم إلى هنا منحناكم كل الوقت وسألنا كل واحد منكم سبع مرات هل عرف جريمته أم لا؟.



ولو اعترف أحدكم وتاب خلال كل تلك الساعات لسامحناه ولكن قلوبكم أصرت على الجُرم، وألسنتكم أصرت على الصمت، فما كان لنا إلا الحكم العادل فيمن ظلموا أنفسهم.



طارت الريشة من فوق الدفتر ومرت مرورا خفيفًا على فم كل واحد من المتهمين الثلاثة ثم عادت مستقرة فوق الدفتر وأكمل زعيم السبعة النطق بالحكم: حكمنا نحن السبعة أبناء السيدة «حورة» بقطع ألسنتكم.. وعاد الثلاثة الى بيوتهم صامتين، همس «شعبان» الصُرماتى فى هلع: أيحاكمونا على ظنوننا ونوايانا؟ هتف أحدهم وهو «نبيل» السمّاك الذى لا يحب «حليم» وبينهما صراع خفى قديم على النجومية فى الحكي: ولماذا لا يكون كل هذا محض خيال من «حليم» فما أدراه بالقصة؟ وكيف عرفها؟ وقد قُطعت ألسنة أصحابها، فبأى لسان حكى الرجل لزوجته وحكت زوجته لك؟



ونظر إلى «حليم» وكأنه عاجلة بالضربة القاضية فابتسم «حليم» فى غيظ مكظوم وقال: لقد كتب لها يا حلوف ألا تعلم أن هناك رجالا يجيدون الكتابة؟!



صمت الجميع وبدأ كل واحد منهم يخرج من دكان «حليم» فى صمت دون حتى أن يودعه بكلمة أو إيماءة، ما عدا «نبيل» السمّاك الذى قال فى غضب قبل أن يغادر المكان: «نبيل» السمّاك ليس حلوفاً يا «حليم»، وصار «حليم» بمفرده تماماً ولما هم بإعادة ترتيب المحل تسمر فى مكانه وسمع صوتًاً يناديه و يأمره بالخروج، خرج ليتفقد ذلك الصوت لكنه لم ير احداً خارج الدكان ورأى نفسه يتحرك قسراً الى جهة المقر دون أن يملك حتى حق التردد أو الرفض.







«9»



سنترك «حليم» يواصل طريقه الحتمى إلى المقر ليواجه هناك ما يواجه وسنطير مع» حورة» التى مازالت تطير ودموعها الحارة تهبط منها فتصنع حُفراً عميقة ينبع منها الماء الساخن، ما مر بجوار تلك الحفرة بشر إلا وتفجر قلبه بالحنان والحب حتى وصلت بعد العديد من ضربات الجناح القوية إلى «تونس» وتحديداً ساحة الاستقلال عند تمثال «ابن خلدون» حيث بيضتها الثانية بعد أن حكم عليها القدر أن تضع فى كل عاصمة من العواصم الإفريقية الأربعة بيضاتها الأربعة متفرقات، وهذا كان سر دموعها الحارة التى تسكبها كلما سافرت من عاصمة إلى أخرى، دموع شوق لبيضتها التى ستطير إليها ممزوجة بدموع فقد للبيضة التى ودعتها، كانت قد اطمأنت قليلاً فى القاهرة حينما أنقذت بيضتها بحدسها فى آخر لحظة من مرزبة ذلك المعتدى وحينما خرج أيضا أطفالها السبعة بصحة جيدة، وها هى تقترب من بيضتها الثانية فى «تونس» وتُظلم السماء وترتفع الأعناق والأبصار نحوها لتستقر راقدة على بيضتها بينما الناس يتابعون ذلك الطائر الخُرافى المؤنث الذى يحمل جسد طائر ورأس ونهدى امرأة، وعم الصمت المكان وأزاحت بجناحيها الأسوار الأربعة البيضاء المحيطة ببيضتها التى بناها الناس ورمقتهم فى صمت، وزاغت عينا المرشد السياحى «نصّار» ثم انحنى والتقط اليافطة الزرقاء التى وقعت من السور والمكتوب عليها «مزار البيضة السياحى» ومسحها فى ملابسه ودفعه شعور غامض أن يحمل تلك اليافطة ويلوذ بالهرب الآن وفوراً وعيون «حورة» تتابع ذلك المرشد الهارب الذى طالما حكى أساطير من وحى خياله للناس عن البيضة النبّاضة وكيف أنها بيضة ديناصور قديم وأن داخلها كتابا ضخما نادرا لــ «ابن خلدون» يحكى تاريخ إفريقيا والناس كانت تستمع إليه فى اقتناع شديد.



لا أدرى لماذا شعر هذا «النصّار» بكل هذا الرعب وحاول الهرب ونجح بالفعل أن يصل الى آخر الساحة ولكنها رفعت طرف جناحها وهوت به على ذلك المرشد الهارب ليرى نفسه منكفأ منسحقاً تحت الجناح الثقيل وغير قادر على الحركة، وبضربة ثانية مِن الجناح غاب عن الوعى وبالثالثة فارق الحياة ثم لمت «حورة» جناحيها وواصلت الرقود على بيضتها ساعات طويلة لم تتحرك والناس يتابعون ولا يستطيع أحدهم حتى أن يرمش بعينيه، ثم قامت وبدأت تتأمل قشرة بيضتها وهى تنهار بالتدريج ويظهر داخل البيضة الكبيرة المُهدّمة خمسة أطفال عمالقة يتحركون فى نشاط ويتجهون نحو «حورة» التى تتفقدهم وتُقبلهم فى مناقيرهم الزرقاء ثم تنظر بحزن لجثتى طفلين عملاقين على أرض البيضة المكسورة تنهمر دموعها وتحتضنهما بجناحيها ويتقدم أحد الأبناء الخمسة إلى الأمام ويقف بجوار تمثال «ابن خلدون» ويخطب فى الناس بشكل رزين:



«لم نقتل أحداً منكم إلا ذلك الذى زوّر القصص وحكى ماليس له وجود وضرب بخياله فيما ليس له به علم، فعاقبته أمنا بثلاث ضربات موجعة، من الآن أنتم هنا تحت حكم أولاد «حورة» الخمسة إن صدقتم صدقناكم، وإن كذبتم كذبناكم، وإن خدعتم خدعناكم، وهذا هو يومكم الأول فى شهركم الأول فى سنتكم الأولى فى حكمنا فودعوا سيدتكم وابكوا بحرقة على أخوينا».



فاضت دموع الناس الصادقة ولفت «حورة» جثتى طفليها فى شعرها وأحكمت حولهما الضفائر ثم فردت جناحيها وطارت وعيون الخلق تتطلع إليها وأيديهم تلوح لها ودموع «حورة» مازالت تسقط من عينيها بينما جلس الشاب العشرينى «على الرياحى» بجوار تمثال «ابن خلدون» يسجل فى دفتره الصغير كل ما رأى دون أن ينسى حرفاً واحداً أما صديقه «إسماعيل» فقد قبض قبضة من الأرض التى وقعت عليها دمعة» حورة» ووضعها فى جيبه ولم يكن «الرياحى» و»إسماعيل» يعلمان بما سيجرى لهما لكنه القدر دائماً يكتب فى كتابه بأفعالنا ما يريد. أما فى مصر فقد أوشك «حليم» الخردواتى على الموت رعباً وهو يجلس فى غرفة من غرف المقر ينتظر مصيره الغامض.







«10»



هتف «حليم» بأعلى صوته من الرعب مع دخول أول واحد من أولاد «حورة» وقبل حتى أن يسأله: أنا أعترف أنا مجرم أنا أفشيت الأسرار أنا نادم أنا نادم أنا نادم،



ولكن الطفل العملاق نظر له فى صمت ثم تركه وخرج وزاد رعب «حليم» أضعافاً مضاعفة وصار مع دخول كل عملاق من العمالقة السبعة عليه على رأس كل ساعة يصرخ ويعترف بأخطاء وجرائم حتى لم يفعلها لعله ينجو بذلك ولكن دون جدوى فقط كل واحد منهم ينظر إليه بعينيه العجيبتين ويفتح منقاره الضخم دون كلام ثم يخرج ويجد «حليم» نفسه وحيداً باكياً مقتولاً بالانتظار والخوف، وها هو الآن أخيراً أمام هيئتهم الموقرة يجلسون على منصتهم التى وصفها قبل ذلك وفى المنتصف يجلس زعيمهم الضخم وأمامه الميزان الصغير والدفتر المفتوح الذى تستقر عليه الريشة غاص قلب حليم فى صدره وغامت الدنيا فى عينيه وتذكر حفيدته الوحيدة «دودو» التى لن يراها بعد اليوم ولن تقول له فى صبيحة كل جمعة: صباح الخير يا جدو «حليم» يا عثل، سيُحرم من لدغة لسانها تلك وعيونها التى لم يخلق الله فى جمالهما وقبل أن يغيب «حليم» عن الوعى من الرعب أتاه صوت الزعيم هادئاً رزيناً صوت يتخلل مسام جلد «حليم» بينما راحت الريشة تعلو رأس «حليم» والصوت يقول: «حليم» الطيب الثرثار المعترف بالأخطاء، الرحيم بحفيدته «دودو» لما كنا نحكم بالحدس وبالكشف فإنا ينقصنا الماضى حتى لا نظلم قومك أو لا نفهمم، هذا سرك يا «حليم» أن تكتب لنا ما حدث قبل أن تكسر بيضتنا على أرضكم كيف كنتم؟ وما هى عاداتكم وما هى أعرافكم والأحداث الكبرى التى جرت لكم قبلنا؟ تُسطر ذلك فى كتاب، والمهلة عام ونوصيك أن تتحرى الصدق لأنك حين تكتب الكذب سنعرف والكاذب مقطوع الرأس يا «حليم» عد إلى دكانك وأكتب ولا تخبر أحداً. هل كان يسير «حليم» فعلاً؟ أم كان يطير؟ هل هو «حليم» فعلاً ذلك الرجل الستينى أم أنه طفل حديث الولادة ولكن الفرحة الطاغية التى صاحبت روحه من المقر للدكان، لم تمنع دموعه التى لم تحدد بعد، هل هى دموع الفرح بالنجاة؟ أم أنها دموع القلق أيضاً من تلك المهمة؟ فى الغالب كانت دموع الفرح فالقلق لا دموع له، القلق لا يحرك العاطفة ويجلب الدموع من المآقى لكنه يأكل القلب وينهش الصدر ويمنع الصبر ويحرم العيون من النوم، كان يتمنى الآن بالذات أن يمر على بيت ابنه «جمال» ويتمتع بحضن حفيدته «دودو» لكنه نفذ الأمر وعاد الى دكانه وشحذ ذاكرته وفرد أوراقه وشرع فى الكتابة، دون أن يدرى أن هناك عيوناً أخرى تترصده، عيونا لو قرأ «حليم» ما فيها من شر لتمنى الموت.



«فصل من رواية»