فى الأسابيع القليلة الماضية تكاثرت محاولات الإيقاع بين المصريين وأشقائهم العرب، وأطلت الفتنة كأقبح ما تكون فى التلاسن بين الجانبين عبر وسائل التواصل الاجتماعى بمختلف منابرها. هذه الحملات أكثرها مقصود من جانب أطراف سياسية داخلية وأخرى خارجية تجد فى الضغوط التى يولدها الوباء فرصة لإثارة الفتنة بين شعوب المنطقة، وبعضها الآخر هدفه الشهرة والانتشار، خاصة فى ظل مناخ إعلامى رديء يحتفل بالنقائص ويتجاهل الفضائل، وأقلها حَسَن النية حَرَكَته مشاعر الغيرة الوطنية وبالتالى استُدرج أصحابه إلى فخ الرد على الإساءة لوطنه بمثلها. عموما فإن العلاقات العربية الشعبية شهدت مراحل مد وجذر ومرت بالعديد من الأزمات المماثلة، وفى العادة فإن هذه الأزمات كانت تنتعش مع تصاعد حدة الضغوط الداخلية أو اشتداد وتيرة المنافسة بين الدول العربية، والأمثلة على ذلك كثيرة.
ضَغْط البطالة على العراقيين العائدين من خطوط المواجهة مع إيران بعد ثمانى سنوات عندما وجدوا أن المصريين هم الذين يتولون تشغيل عجلة الإنتاج فى بلادهم، وقريب من ذلك ماحدث فى اليمن أيام حكم على عبدالله صالح عندما وجد الحرفيون اليمنيون إقبالا متزايدا على الاستعانة بصنايعية مصر وبالتالى منافستهم فى سوق العمل. الضغط الديموجرافى على التركيبة السكانية اللبنانية المعقدة أصلا مع تزايد موجات النزوح من سوريا إلى لبنان منذ عام 2011. التعصب الجماهيرى فى المسابقات الإفريقية والدولية وما يسفر عنه من أحداث مؤسفة آخرها ما وقع فى نهائى البطولة الأفريقية لكرة اليد بين مصر وتونس. وبطبيعة الحال كلما تقاطعت الضغوط السابقة مع بعض الأسباب السياسية يزيد الاحتقان والتأزم، وهنا نذكر أوضاع العمالة الفلسطينية والأردنية واليمنية فى الخليج على خلفية الموقف السياسى من الغزو العراقى للكويت وتداعياته.
نأتى لتطورات مابعد كورونا فى علاقات مصر العربية غير الرسمية وأسجل بخصوصها عدة ملاحظات أساسية:
الملاحظة الأولى أن أزمة كورونا مثلما خلقت بيئة تساعد على الاحتقان الشعبى فى حالات محدودة، فإنها أتاحت فرصا رائعة للتفاعل الإنسانى وتعزيز الوشائج الأخوية بين شعوب المنطقة، وأول ما يتبادر للذهن فى هذا الخصوص نموذج قرية الزنيقة فى الأقصر التى استضاف أهلها بكل ترحاب أشقاءهم السودانيين ممن تعذر رجوعهم لبلدهم بسبب غلق الحدود بين مصر والسودان. بدأت القصة بعفوية وبمبادرات فردية غير منظمة ثم سرعان ما اتسعت الدائرة فشارك فى دعمها بعض رجال الأعمال، وفى مرحلة تالية اتخذت المبادرات طابعا مؤسسيا بدخول مؤسسات المجتمع المدنى والأجهزة الرسمية على الخط. هذا النموذج لم يلق حظه من الاهتمام الإعلامى الكافي، وعدا القليل جدا من التقارير الميدانية والمقالات التى تناولته فلقد اقتصر التعامل معه على التغطية الخبرية المحدودة. وبالتالى يكون السؤال هو: لماذا لا نبنى على هذا النموذج الإيجابى فى العلاقة بين الشعبين المصرى والسودانى ؟ ولماذا لا يفسح إعلام الحرائق والتحريض مساحة واسعة فى برامجه للتأكيد على ما تضمنه هذا التعايش الأخوى من دلالات ومعانٍ؟ الإجابة أن مادة الموضوع تنقصها الإثارة المطلوبة.
الملاحظة الثانية أن الذى يتأمل جوهر الحملات السلبية المتبادلة بين شعوب المنطقة يجده يركز على تباهى كل طرف بأياديه البيضاء على الطرف الآخر، وهذا جوهر تعيس ولا يسمح بنقاش مثمر، وذلك أن من أهم مميزات المنطقة العربية التنوع الكبير فى قدراتها ومواردها الطبيعية والبشرية والمادية، فلا توجد دولة عربية تمتلك وحدها كل مقومات القوة، فهناك من يمتلك الوفورات الاقتصادية، ومن يتمتع بالإمكانات البشرية والخبرة العسكرية، وهناك من حباه الله بموقع استراتيچي، ومن تتوافر له أدوات القوة الناعمة، ومثل هذا التعدد حين يُحسن استخدامه فإنه يوفر قاعدة متينة للتكامل الاقتصادي. إن أحدا لا ينكر الدور المهم الذى لعبه سلاح النفط فى حرب أكتوبر والإسناد العسكرى العربى للجيشين المصرى والسورى فى العمليات الحربية، كما أن أحدا لا ينكر الدور المصرى فى التصدى للأطماع العراقية فى الكويت مطلع الستينيات ثم فى تحرير الكويت من الاحتلال العراقى مطلع التسعينيات، وبالتالى فإن التعامل بثنائية اليد العليا واليد السفلى بين الدول العربية هو تعامل غير منصف وغير حقيقى أيضا. ولقد كانت رموز المجتمع المدنى فى كل من الكويت ومصر واعية تماما لهذه النقطة ومدركة لعلاقة التواقف بين مصالح الدولتين، وانعكس ذلك فى الڤيديوهات والتغريدات والبيانات التى كتبها مثقفون من الجانبين للإعراب عن رفضهم للفتنة ودعوتهم للتراص. وكما هو واضح فإننى لم أعر اهتماما لذلك الهراء المتعلق بتحميل المصريين مسؤولية نشر كورونا فى العالم، فمناقشة الهراء مضيعة للوقت.
الملاحظة الثالثة والأخيرة أنه ربما حان الوقت لإطلاق حوارات شعبية عابرة للحدود فى بؤر الأزمات المتكررة بهدف منع تفجرها مستقبلا. وقد سبق للكاتب السودانى النور أحمد النور أن دعا فى عام 2013 إلى حوار بين المثقفين والإعلاميين المصريين والسودانيين ولم تلق دعوته استجابة فكان أن تفجرت عدة أزمات بين الشعبين آخرها الأزمة بمناسبة وباء كورونا. ومن جانبها أعادت دكتورة أمانى الطويل فتح هذا الملف مجددا قبل عدة أسابيع بمقال عنوانه: هل تتراجع محبة السودانيين لمصر؟ وهو مقال تفاعل بالتعقيب عليه بعض السودانيين وذهبوا فى اتجاهات مختلفة، فلماذا لا نفكر فى الدفع بمبادرات الحوار الشعبى خطوة للأمام ؟. إننا نحتاج إلى أن نسمع لأشقائنا السودانيين وأن يسمعوا لنا فهناك التباسات كثيرة تحتاج إلى توضيح.
لعن الله الفتنة ومن يوقظها، وحفظ الله وعى شعوبنا وحسها المسئول.