عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
أطباء مصر.. نجيب محفوظ فدائى «موشا» ورائد «النساء والتوليد»
6 أبريل 2020
000;


المجتهد يبدأ مجتهدا من البداية. هكذا كان الدكتور نجيب ميخائيل محفوظ الذى طلب بكامل إرادته فى بدايات القرن العشرين أن يتجه إلى بؤرة تفشى وباء الكوليرا فى بلدة «موشا» التابعة لمحافظة أسيوط ليشارك فى جهود احتواء الوباء الوافد إلى البلاد. وكانت تلك بداية سلسلة من التحديات الطبية والعلمية التى خاضها محفوظ بنجاح ليكون أبرز رواد «طب النساء والتوليد» فى مصر.



ولد نجيب محفوظ فى الخامس من يناير عام 1882، بمدينة المنصورة، لم يكن وصوله إلى الحياة يسيرا، فقد عانت والدته مخاضا عسيرا دام ثلاثة أيام بلياليها كما يؤرخ دكتور محمد محمد الجوادى فى كتابه « الدكتور نجيب محفوظ: رائد أطباء النساء والولادة» والصادر ضمن سلسلة « أعلام العرب».



تلقى تعليمه الأولى فى مدينة المنصورة، قبل وفاة والديه وانتقاله مع أحد أشقائه السبعة إلى القاهرة. ولكن دراسته فى «مدرسة الأمريكان» بالمنصورة كان لها دور كبير فى تكوين شخصية العالم المحب للمعرفة. فوفقا للكتاب، لتشجيع المدرسة على البحث والمعرفة العامة.



يحكى الدكتور نجيب محفوظ بنفسه فى إحدى كتبه، كيف كان لمكتبة والده دروس أساسى فى تشكيل ثقافته، موضحا أنه اعتاد قراءة الصحف والمجلات العلمية الدورية، وقرأ أعداد مجلة المقتطف، تحديدا تلك التى كانت تتضمن مقالات للأستاذ الكبير شبلى شميل، حول النشوء والتطور واكتشاف ميكروب الدرن. ويعترف محفوظ أن القراءة كانت أداة حاسمة لاختياره دراسة الطب، بل إنه بحث عن أخبارها فى روايات شارلز ديكينز وفيكتور هوجو، وكانت تلك القراءات موجهة له.



وفى العاصمة، كانت بداية تعليمه الثانوى بمدرسة التوفيقية الثانوية. نبغ محفوظ فى دراسته، فحاز شهادة الثانوية» البكالوريا» بعد أن اختصر سنوات دراسته لها. فالتحق بمدرسة الطب عام 1898، وواجه مشكلة إنخفاض مستوى دراسة الطب وقتها فى مصر بسبب تراجع بعث الإرساليات إلى الخارج، والتحويل إلى الدراسة باللغة الإنجليزية، مع عدم توافر أساتذة يدرسون بهذه اللغة. وكان مجموع طلبة كلية الطب وقتها بجميع سنواتهم حوالى 40 طالبا لا أكثر. ولكن الإيجابى أنه تلقى علومه على أيدى أطباء أفذاذ مثل اليوت سميث. المفارقة القدرية التالية فى مسيرته، أن عامه النهائى بكلية الطب فى 1902 شهد تفشى وباء الكوليرا فى بلدة «موشا» بأسيوط. وقتها تم تكليفه بالعمل مراقبا للقادمين من صعيد مصر. ولكن وفاة زميل له بموشا، دفعه إلى المطالبة بأن يحل محله وهو الذى لم يتخرج رسميا بعد. سعى محفوظ، وراء أصل الداء فى « موشا» حتى وصل إلى بئر يشوبها ماء ملوث بالكوليرا. فكان قراره بردم البئر، وكانت بداية انحسار الوباء. موقعة «موشا» كانت بداية ذيوع صيت الطبيب المصرى الشاب، ودعم صيته، أنه تخرج بأكبر مجموع فى الجراحة والأمراض الباطنية.



عقب تخرجه فى العام ذاته، بدأ محفوظ فى قضاء «سنة الإمتياز» فى مستشفى السويس، التى كان يترأسه فى ذلك الحين، الطبيب الكبير كرسويل كرزويل. وينقل كتاب « اعلام العرب» عن الدكتور سليمان عزمى شهادته عن صيت محفوظ فى هذه الفترة، موضحا «وفى أواخر سنة 1906، أتممت أنا دراستى وعينت طبيبا مساعدا بمستشفى السويس فى نفس الوظيفة التى كان يشغلها محفوظ قبلى ومما استلفت نظرى فى ذلك الحين الذكريات الطبية التى تركها وتحدث بها الناس والتقدير العظيم الذى قدره به الدكتور كرسويل كرزويل الذى كان رئيسا للمستشفى إذ كان يشيد بذكره فى كل مناسبة».



اختاره كرزويل طبيبا أول بمستشفى الفيوم، ولكن الشاب النابغ اعتذر كاشفا عن رغبته فى التخصص بطب النساء والتوليد. فما كان من كرزويل إلا أن بادر بمنح الطبيب المصرى عشرة كتب فى مجال النساء والتوليد، وأوصى بانضمامه إلى فريق أطباء قصر العيني. وفى قصر العينى كان محفوظ طبيبا للتخدير، وصاحب مبادرة لإنشاء عيادة خارجية لطب النساء والتوليد، ولما زاد الإقبال عليها، بدأ تخصيص قطاع داخلى تابع للعيادة. ويحكى الدكتور الجوادى فى كتابه «وفى سنة 1905 قدم تقريرا لإدارة المستشفى عن العمل بالقسم الجديد فى خلال سنتين أجريت فيها 160 جراحة فى السنة، قام الدكتور محفوظ بإجراء مائة منها انتهت كلها بالشفاء.. وفى عام 1906، تجاوز عدد المرضى بالعيادة الخارجية أكثر من مائة مريض فى اليوم الواحد».



وكانت هذه بداية إنشاء قسم خاص للنساء والتوليد بقصر العينى أفتتح عام 1906. ومن أشهر الولادات صعوبة التى تمكن الطبيب الكبير من إتمامها بسلام، كانت ولادة نجل إبراهيم عبد العزيز فى مطلع ديسمبر عام 1911. وتقديرا من الأب لدور الطبيب فى إنقاذ حياة نجله وقرينته، سمى مولوده اسما مركبا، وهو «نجيب محفوظ»، فكان الأديب المصرى الكبير وصاحب نوبل.



وأدرك الطبيب الكبير ضرورة دعم جهود قصر العينى فى مجال النساء والتوليد، فأنشأ سلسلة من العيادات العمومية، بدايتها بعيادة « باب البحر»، وكانت خدماتها تقدم إلى الجمهور مجانا. ومن إنجازاته الطبية أيضا، توليه دور توجيه وتدريس فنون وعلوم التمريض والتوليد لفرق المولدات والممرضات على مدار أكثر من ثلاثة عقود. وكان صاحب إنجاز خاص بتطوير دور النساء بالمجال الطبى المصري، وإيجاد مهمة «الحكيمات». ولكن الإنجازات لم تتوقف هنا، فقد ساهم فى إنشاء «المستشفى القبطي» الذى افتتح عام 1926. وكان من مؤسسى مستشفى الولادة بشبرا. وكان الوكيل الأول للجمعية الطبية المصرية لفترة طويلة. كما تولى رئاسة الجمعية المصرية للولادة وأمراض النساء. وذلك ضمن إنجازات أخرى.



حصل على درجة الماجستير فى الجراحة العامة من جامعة القاهرة عام 1930، ثم دبلوم عضوية الكلية الملكية البريطانية للأطباء الباطنيين عام 1932 ثم زمالة الكلية الملكية البريطانية للولادة وأمراض النساء عام 1934. وكذلك زمالة أكاديمية الطب بنيويورك. أما تقدير الدولة له، فبخلاف نيله ألقاب البكوية والبشوية، نال الدكتور نجيب محفوظ نيشان النيل عام 1919، ونيشان المعارف من الطبقة الأولى عام 1938، ونال الدكتور الرائد جائزة الدولة التقديرية للعلوم عام 1960. وفى احتفاله بأول يوم للطبيب عام 1979، منح الرئيس محمد أنور السادات قلادة الجمهورية لاسم المرحوم نجيب محفوظ الذى كان قد توفى عام 1974.



من أبرز مؤلفاته، «فن الولادة» الصادر طبعته الأولى عام 1905. و«أمراض النساء العلمية»، و«الثقافة الطبية والطب النسوى عند العرب». ولكن معارف نجيب محفوظ أهلته لكتابة مؤلف فى الأدب باللغة العربية باسم « حياة طبيب»، فضلا عن مؤلفاته الطبية باللغة الإنجليزية.