فى مشهد قريب من مشاهد أفلام الخيال العلمى، الذى برعت فى إنتاجه صناعة السينما الأمريكية هوليوود حول غزو الكائنات الفضائية، والروبوتات العملاقة التى خرجت عن سيطرة العلماء، بدت معظم عواصم أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وكندا وكذلك مختلف عواصم العالم العربى وغيرها، السياسية والمالية والاقتصادية، وقبلها كانت مدينة ووهان الصينية موطن وبؤرة انتشار فيروس “كورونا”، الشعور بأن الحياة توقفت أو تكاد توشك على التوقف، هو الذى ساد ويسود حتى هذه اللحظة.
لم يكن يتصور أحد أن مشاهد أفلام الخيال العلمى يمكنها أن تحدث فى الواقع، بل كنا نتصور –أو على الأقل الكثيرون منا- أنها مجرد مشاهد خيالية أو افتراضية بلغة النت, أى بعيدة التحقق فى الحياة والواقع، وأنها لمجرد إشباع دوافع الإثارة والفضول والخيال، وظل هذا الشعور يراودنا، إلى ما قبل ظهور هذا الفيروس وتحوله إلى وباء عالمى، وذلك رغم أن، الوقائع والواقع يخبرنا بما لا يدع مجالا للشك بأن الكثير من الخيال العلمى بالذات فى الأدب، قد تحول مع تطور العلوم والبحث العلمى إلى وقائع، ومن بين الأمثلة على ذلك رواية الأديب الإنجليزى “الدوس هكسلى الشهيرة والمعنونة عالم رائع جديد والذى تخيل فيها ما قد يحدث فى المستقبل أو بعد عدة قرون؛ بأنه سيتم صناعة الأطفال فى الأنابيب والزجاجات وتصنيعهم وفق احتياجات المجتمع. وما تصور حدوثه فى عدة قرون قد تحقق فى مدة أقل من ذلك بكثير.
تستحق الدولة المصرية فى مواجهة أزمة فيروس كورونا العالمية التقدير والاحترام، بكافة أجهزتها ومؤسساتها، التى اتخذت كافة الإجراءات الاحترازية على الحدود وفى المطارات والموانىء وكافة المنافذ الحدودية، وفى الداخل، وذلك قبل الإعلان عن أية إصابة بهذا الفيروس فى مصر وهو الأمر الذى استحقت عنه التنويه من قبل ممثل منظمة الصحة العالمية فى مصر الدكتور جون جبور فى السادس عشر من فبراير عام 2020 فى التعامل المنضبط والاحترازى لمواجهة الانتشار وحماية صحة المواطنين.
جمعت خطة الدولة المصرية لمواجهة هذا الوباء بين الإدارة السياسية للأزمة وبين الإدارة الفنية والتقنية والطبية، فعلى مستوى إدارة الأزمة سياسيا؛ لم تقع فى فخ التهوين أو التهويل، وتجنب إحداث الفزع والرعب وفى الوقت ذاته تجنب عدم الاكتراث واللامبالاة والتصرف وفق الاحتمالات الممكنة، والسيناريوهات المختلفة، لتطور انتشار هذا الفيروس الخبيث، أما على مستوى الإدارة الفنية والتقنية والطبية فقد طبقت المعايير الدولية التى أوصت بتطبيقها منظمة الصحة العالمية وتقوم الأجهزة المعنية الطبية والصحية بإعلام المواطنين بتطور حالات الإصابة والشفاء منها، واتبعت فى ذلك حق المواطنين فى المعلومات والتوعية بخطورة هذا الوباء، وأن مواجهته مسئولية تقع على عاتق الدولة، والمواطنين معا وفى تلازم بين هذين المستويين من المواجهة وأثبت المصريون فى غالبيتهم أنهم بمستوى هذا التحدى وقام البعض منهم بمبادرات طوعية تلفت الانتباه.
واجهت الدولة جملة من الإشاعات والأكاذيب التى روجتها وسائل التواصل الاجتماعى، من ناحية، كما تواجه أيضا بعض مظاهر فقدان الثقة من قبل بعض شرائح المواطنين فى الأرقام المعلنة والإجراءات المطبقة، وإذا كان الرد على الإشاعات والأكاذيب سهلا لأنه يتمثل فى الإصرار على إعلان المعلومات والحقائق كما هى فعلا ومن المصادر الرسمية الموثوقة، فإن بعض أوجه فقدان الثقة والشك فى المعلومات المعلنة، يمثل أمرا يتعلق بالأزمة والمخاطر المرتبطة بها والقلق الذى اعتور الرأى العام والعثرات التى تواجه ابتكار مصل أو لقاح من قبل الأجهزة الطبية والدوائية العالمية حتى الآن، كما أن طبيعة هذه الأزمات على نحو خاص تحفز جزئيا فقدان الثقة وتشيع أجواء الشك، كما أن تجربة المصريين فى فترات سابقة تعزز من هذا المناخ، ولا يقتصر هذا الأمر على مصر فحسب، بل هذا ما يحدث فى فرنسا مثلا وفى ذات التوقيت وبخصوص الأزمة ذاتها, أى انتشار هذا الفيروس، فقد كشف استطلاع للرأى أجرى فيها عن أن 57% من الفرنسيين يعتقدون أن الحكومة الفرنسية “تخفى بعض المعلومات، ومن هؤلاء من يعتقد أن الحكومة تريد بث الخوف بين المواطنين، ويرى البعض الآخر أن الحكومة تحجب المعلومات للتستر على بعض المصالح العليا، وهذا الأمر يعمق من أزمة الثقة بين الحكومة والشعب ويؤثر بطبيعة الحال على هذه المواجهة.
الأوبئة والأزمات الطبية والصحية لا يمكن حصر نتائجها وتداعياتها فى المجال الطبى أو الصحى أو العلمى، بل تتضمن نتائج سياسية واجتماعية، هكذا كانت عبر التاريخ، ففى التاريخ الأوروبى وفى منتصف القرن الرابع عشر حصد وباء “الطاعون” ما يقارب نصف سكان القارة الأوروبية، وتضاءل عدد العاملين فى الزراعة وزاد الطلب على الأعمال الأخرى، بعيدا عن الريف، وتم توجيه الاستثمار وتحديث تقنيات الزراعة وانهار نظام السخرة وقد أفضت هذه التغيرات إلى تخليق جنين الثورة الصناعية وإحداث التراكمات الاجتماعية والإنتاجية والاقتصادية التى مهدت لظهور هذه الثورة بعد ذلك بعدة قرون، كذلك أفضى وباء الحمى الصفراء إلى هزيمة فرنسا فى سانت دومينج بعد أن قضى هذا الوباء على عشرات الآلاف من الجنود الفرنسيين.
لقد كشف انتشار الوباء عن أهمية الاقتصاد الصينى للعالم بأجمعه واكتشفت أوروبا اعتماد اقتصاداتها على الاقتصاد الصينى خاصة فى تصنيع البطاريات الكهربائية والمواد الفعالة للأدوية، ومنتجات الهاى تك والألواح الشمسية والمواد الإليكترونية، وهو الأمر الذى دعا العديد من المراقبين الأوروبيين لإعادة توطين هذه الصناعات فى المجال الإقليمى الأوروبى وكذلك العديد من الأنشطة، كما أن الأزمة قد كشفت عن الوجه الحضارى والإنسانى للصين التى قدمت المساعدة للعديد من الدول.
قد يكون من المبكر استشراف عالم ما بعد كورونا خاصة وأن الوباء حتى الآن رغم خطورته لم يصل ونأمل ألا يصل –إلى خطورة وباء الإنفلونزا الأسبانية أثناء الحرب العالمية الأولى أو خطورة وباء الطاعون، ومع ذلك فإن إرهاصات التغيير على الصعيد العالمى تبدأ فى التشكل من الآن.