عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
الملقن والكمبوشة
27 مارس 2020
محمد هلال;

دفعه عشقه الجارف لخشبة المسرح أن يقبل دور «المُلقن» للممثلين تحت فتحة «الكمبوشة»، التى يراها المتفرّجون صندوقًا خشبيًّا يقع فى بداية المسرح. قد يعجب البعض ممن يجلسون فى الصفوف الأخيرة ويحارون فى ماهية هذا الصندوق وفائدته.. أما مَن يجلسون فى الصفوف الأولى، فيعرفون سر الصندوق حين يخرج منه صوت يهمس لتذكير الممثلين بكلمات أدوارهم فى المسرحية ولولا تلك الهمسات المكتومة ربما اختل أداء بعضهم؛ لنسيانه بعض كلمات الدور الذى يؤديه.

رغم إجادته فن التمثيل الذى شهد له صاحب المسرح ومخرج مسرحياته ومؤلفها فى أثناء أداء «البروفات»، وهو جالس على كرسى إلى جوارهم، ومعه أوراق النص المسرحى، حيث أكد له جودة أدواته المسرحية، وتمكنه منها بدرجة تفوق الكثير ممن هم فوق خشبة المسرح، ويراهم الجمهور ويصفق لهم؛ ولكن إجادته الرائعة لدور «الملقن» لأدوارهم حين تهرب منهم كلمات الحوار لا تُعوض، ومن النادر أن يجد مثله.. ثم يربت على كتفه قائلًا: صبرًا فإن مكانك فوق خشبة المسرح عندما يتوفر لى «مُلقن» جيد مثلك.

فكان يهمس ألمًا لنفسه: وهل جودتى وتميزى هى سر تهميشى وشقائى وحرمانى من الظهور فوق خشبة الحياة؟! ويتمتم فى نفسه: ذلك هو قانون الدنيا؛ ليس التميز والإجادة والاجتهاد معيار النصيب فيها، قد يكون رزق الخامل أو البسيط أكثر بكثير من النشيط المجتهد، إنها إرادة صاحب المسرح ومؤلف ومخرج مسرحياته، وما عليَّ إلا الانصياع والطاعة وإلا حرمنى حتى من هذا الدور البسيط الذى لا يرانى فيه أحد، ولا يعرفنى ولو اسمًا فقط، فإعلانات المسرحيات تخلو من اسم «الملقن» رغم أهميته حتى لو كان فى آخر الأسماء وبخط صغير جدًا لا تلفت الأنظار إليه.

عاش على أمل أن يتغير مزاج صاحب المسرح، ويختار له دورًا ولو صغيرًا يراه فيه الجمهور، ويصفقون له كما يصفقون للكثيرين غيره.

ظل سنوات يهمس بصوت خفيض للممثلين، ويحفظ جميع الأدوار وطريقة الأداء على أمل أن يتغيب أحدهم ذات ليلة، فيختاره المخرج صاحب المسرح ليؤدى دوره ولو لليلة واحدة، أو ربما يغضب من رداءة أداء أحدهم ويحله محله.

كان يملأ عينيه فى كل ليلة من اللافتة التى تملأ واجهة المسرح يعلوها بهيبة وجلال اسم صاحبه ومؤلف ومخرج مسرحياته، وتحته بمسافة كبيرة وبخط أصغر أسماء الممثلين والمساعدين ثم صناع الديكور والإضاءة؛ ولكن كان يحزنه كالعادة خلوها من اسم «الملقن»، ويهمس وهو ينصرف إلى باب الدخول: «إنها إرادة المخرج».

مرت السنون وهو يمارس دور «الملقن» محبوسًا أسفل تلك الفتحة الصغيرة غير المرئية إلا للممثلين الذين تعلو أقدامهم مستوى رأسه؛ واقفًا طيلة زمن المسرحية لا يتحرك ولا يعلن ضجره أو يشكو آلام قدميه.. وأن يقبل الهِبات المالية لبعضهم فى نهاية العرض لإجادته وأن يشكر لهم صنيعهم؛ رغم كراهيته قبول تلك الهِبات التى لا يجب أن يرفضها، وهم يربتون على كتفه بامتنان المحسنين، كره أيضًا أن ينادوه باسمه مجردًا، ولا يمكنه أن يذكر اسم أحدهم إلا مسبوقًا بلقب «الفنان الكبير» أو «الفنان القدير»، ولا ينسى انحناءة الشكر لقبول العطاء؛ والأمل كرباج غليظ يراوده فى الصعود إلى جوارهم ولو لمرة واحدة.. ويهمس والغيظ يمزق نياط قلبه: متى تكون مشيئتك كما وعدتنى يا صاحب المسرح؟! ألم تعدنى فى حال اجتهادى وإخلاصى سيكون لى شأن آخر؟ ربما يفوق من يقول الناس عنهم نجومًا كما قلت أما آن لنصيبى أن يأتى بعد! نصيبى الذى سيتغير بكلمة واحدة منك ولكنه كان لا ينسى التحذير الصارم للمخرج صاحب المسرح ذات يوم: «تلك هى شروطى إن أردت، وإلا فاذهب إلى مسرح آخر، واختر لك مخرجًا سواى، دورك الهامشى هذا يرجوه خلق كثير، لكننى اخترتك فلا تك جاحدًا وإلا حل عليك غضبى».

مع مرور الأيام بدأت المسارح تغير من شكلها وتستغنى عن «الكمبوشة» و»الملقن»، وقرر صاحب المسرح ومؤلف مسرحياته ومخرجها بدوره مواكبة التطور، وقرر تجديد المسرح وإلغاء «الكمبوشة»، ليتواكب مع التغير الجديد لحياة المسارح.

فرح فرحًا شديدًا منعته سعادته من النوم، فعلاقته بالمخرج جيدة، حيث لم يعصه أبدًا، بل كان ينفذ كل أوامره ويبتعد عن كل نواهيه، وقد امتدح موهبة التمثيل عنده وإجادته وتمكنه منها، بل كان يناديه فى كثير من الأحيان بلقب «فنان».

حَلم بجنة تصفيق الجمهور عند دخوله لأداء دوره وفى لحظات إجادته، وهجرانه «جحيم الكمبوشة»؛ حلم بأنه سيرى اسمه على «أفيشات» المسرح وفى إعلانات الشوارع، طار فرحًا بلقب «فنان» الذى ينتظره.

ونسى كل الهموم السابقة، وقال: «الآن ستتحقق إرادة المخرج وأعيش كما يليق بمواهبى».

بعد أن انتهت التجهيزات الجديدة الشاملة للمسرح، باستخدام أحدث التقنيات العلمية، بدا المبنى كأنه عروس فى ليلة زفافها، واقترب ميلاد الحلم الذى طال انتظاره، صعقته شائعة اختفاء «المخرج» دون أسباب واضحة، نشب الحزن أظفاره فى قلبه بعد فشل كل المحاولات للعثور عليه.

ما أجهز على حشاشة قلبه اعتزام الورثة تحويل النشاط المسرحى الذى لا يحقق ربحًا كما قالوا إلى آخر أكثر رواجًا وربحًا كثيرًا؛ إلى «ملهى ليلى» يحمل الاسم نفسه الذى اشتهر به، وفاءً لذكرى والدهم العظيم كما قالوا.

ذات ليلة مظلمة، استبد به اليأس فلم يجد سلوى إلا زيارة مبنى المسرح، ربما وجد صاحبه قد عاد إليه بعد مانعٍ قهريٍّ يجهله حتى ورثته، رغم يقينه باختفائه المفاجئ، لكنه أمل اليائس فى الإنصاف؛ مشى يجر قدميه بخطى ثقيلة، كأنه يخشى مفاجأة الاختفاء الأخير لصاحب المسرح الذى يمثل ظهوره بعث الحياة من جديد.

لا يدرى كيف هجمت عليه حواراته القديمة مع ما سمّاه الناس «الشيخ السلفى» كثيف اللحية قصير الجلباب: لا أزكّى على اللـه أحدًا، لكننى أراك رجلا طيبًا، ومن الظلم لنفسك معصية ربك فى مسارح الشيطان هذه.

كان الشيخ ضخم الجسم ذا بطن عظيم، وعجيزة كبيرة وثوبا أبيض اللون فضفاضا، ربما لأنه اعتاد التهام لحم الضأن الذى يفضله ليعينه على زوجاته الأربع، صغيرات السن اللاتى بدّلهن بمطلقاته العديدات.. وعندما عاب عليه ذلك احمرّ وجهه غضبًا وكاد يشج رأسه، وقال: من حرَّم زينة اللـه لعباده يا كافر!.

أخبره أن إحدى طليقاته تعمل معهم فى مطبخ المسرح تعد الشاى والقهوة والطعام لمن أراد؛ إلا أن راتبها الشهرى قليل لا يكفيها وليس لها من يعولها، وربما ارتكبت ما يشين تحت قهر العوز. أقسم ألا يتركه يعيش فى البناية نفسها التى يملكها، فهو نجس وشيطان فى ثوب رجل ضعيف الحال، وحتمًا سيجلب الفقر واللعنة عليهم.

تذَّكر يومًا أراد السلفى كما كان يقول له الخير ورضا الخالق والتمتع بملذات الحياة المشروعة وبحبوحة العيش بدلًا عن الحياة الخشنة التى يعيشها مع زوجة واحدة، شريطة أن يترك خشبة الشيطان هذه، ويتبعه ويطيع أوامره وينفذ ما يطلبه منه دون جدال أو تفكير، فملامح وجهه الطيبة تصلح لأن يكون داعية دينيًّا يهدى اللـه به الخلائق لا «مشخصاتى» يضحك الناس .. وعندما قال له: خشبة المسرح لها رسالة فى إصلاح ذوق المجتمع، فهو «أبو الفنون».. هاج وماج وقال: إنك رجل ملعون ولا تصلح إلا وقودًا للنار، أتشبّه أراجوزات الشيطان بالدعاة والمجاهدين يا كافر.

دمعت عيناه وهو يجر قدميه الثقيلتين وتمتم: رقصت على السلم يا أنا؛ فها هو صاحب المسرح اختفى، والشيخ السلفى قهرنى على الهرب من مسكنى بعد أن نجوت من محاولة اغتيال لى وعيالى بعد أن سلط عليَّ من سمّاهم «الإخوة».

أخيرًا وصل مبنى المسرح، أدهشته زخارف الواجهة الجديدة والإضاءة المتعددة الألوان، وصورة ضخمة لراقصة معروفة اختفى خلف جسمها اسم صاحب المسرح، وتحت قدميها كلمات بخط أحمر اللون تؤكد أن الافتتاح الكبير سيكون خلال أيام قلائل.

حملق طويلًا فى المشهد الجديد، ثم تسلل عبر نافذة خلفية للمبنى، فهو يحفظه شبرًا شبرا، علق حبلًا طويلًا على هيئة «مشنقة» بإحدى العوارض الحديدية المخصصة لتعليق مصابيح الإضاءة الملونة فى سقف «المسرح الجديد» الذى ستعمره الراقصة المعروفة، ربط الحبل جيدًا ثم نزل إلى خشبة المسرح، شلال من الدموع يغرق تضاريس وجهه، أحضر كرسيًّا وقف عليه تحت «المشنقة»، خاطب الكراسى اللامعة الجديدة فى الصالة الكبيرة، انحنى نحوها والتصفيق الحاد يغمر المكان، ويكاد من شدته يصم أذنيه، صرخ بأعلى صوته الباكي: انتهت الرواية.. انتهت الرواية.. أين أنت يا صاحب المسرح ومؤلف رواياته ومخرجها؟.