شهر مارس هو شهر المرأة، يكثر فيه عادة الحديث عن قضيتها وتقدم مسيرتها فى التحرر علاوة على الحديث عن فضائلها وأفضالها. ولكننى شعرت هذا العام بنبرة تعبر عن نوع من الشعور بالضجر من تكرار هذه العادة السنوية بل ذهب البعض إلى اعتبار الاحتفال بيوم للمرأة هو مؤشر على العنصرية ضدها. وقد يكون مبعث هذا الضجر هو أننا فى العادة نخصص هذه الأيام العالمية لإلقاء الضوء على جماعات بشرية منعزلة مثل سكان الأمازون أو كائنات مهددة بالانقراض مثل الباندا والخرتيت أو التذكير بكوارث محتملة الحدوث مثل تلوث البيئة والتغيرات المناخية من باب الاستفادة من هذا الاحتفال فى دعم وتعزيز التوعية بها.
لقد خرجت المرأة من هذا الإطار الذى كان يفرض عليها أن تظل كائنا مغلوبا على أمره وخاضعا لتحكم الآخرين. لقد أصبحت اليوم وهى نصف البشرية تملأ أرجاء الأرض بعملها وإبداعها، وقد ترسخت حقوقها واكتسبت حريتها بصورة لا يمكن الرجعة فيها. بالطبع يمكن على مستوى بلاد العالم رصد أوجه القصور سواء فى القوانين أو فى الدخل المادى أو فى المشاركة السياسية هنا أو هناك، لكن المرأة لم تعد ذلك الكائن المقهور الذى يستحق التعاطف والمساندة. ولكى ندرك مدى الإنجاز الذى تحقق فى مسيرة المرأة فى زمن يعد قصيرا بالنسبة لحجم هذا التغير التاريخى الهائل علينا أن نعود إلى كتاب استعباد النساء للفيلسوف الإنجليزى جون ستيوارت ميل والصادر عام 1869والذى يصف فيه الحالة المتردية التى تعيش فيها النساء فى إنجلترا فى ذلك الزمن وهى نفس الحالة التى كانت تعيش فيها نساء مصر بل العالم كله. الكتاب صرخة احتجاج ضد الاستعباد الذى تم إلغاؤه كتجارة ولكنه ظل مستمرا فى التعامل مع النساء، فالمرأة ملزمة بطاعة زوجها ومحرومة من التعليم والعمل، وأى محاولة منها لاكتساب بعض الحقوق يتم التعامل معها على أنها خطر يقوّض أركان المجتمع.
لم يكن قهر النساء ناتجا فقط عن الرأى العام بل تسانده القوانين المعمول بها فى الدولة والتى تنص على منع النساء من مزاولة مهن معينة. وندهش للحجج التى كانت تقدم لتبرير هذا الوضع. فيقال هناك أعمال لا تستطيع النساء القيام بها ويرد ميل: ما الداعى إذن لإصدار قانون يمنعهن من فعل ما لا يقدرن عليه. وهناك حجة أخرى ترى أن الرجال فى بعض المهن أكفأ من النساء ويرد ميل: ما المانع إذن من فتح المنافسة بين الرجال والنساء مادام الرجال سيكسبون. نعجب اليوم من عبثية مثل هذه الحجج التى يهدف القائلون بها إلى استمرار سيطرة الرجل على المرأة. ويشير ميل إلى أن الوضع حينما يكون بالغ الظلم بصورة يصعب فيها الدفاع عنه فإن أنصار استعباد النساء يقدمونه على أنه واجب ديني. ويبرئ ميل المسيحية من هذه التهمة لأن قهر النساء موجود قبل المسيحية وموجود خارج المسيحية فى كل الثقافات الأخري. ومن يعتقدون بتفوق الرجل العقلى انطلاقا من أننا لا نجد من بين النساء عالمات ومبدعات، يرد عليهم ميل مستنكرا: ماذا تنتظرون من نساء حرمن على مدى قرون طويلة من التعليم؟ أما الحجة البيولوجية التى تتردد أن وزن مخ الرجل أثقل من مخ المرأة فيرى أنه لا أساس لها من الصحة ويذكر أن العالم الفرنسى كوفييه الذى كان مهتما بوزن نماذج من المخ من الرجال والنساء لم يجد أى تمييز ممكن رصده بل صرح بأن أثقل مخ قام بوزنه كان لامرأة. وفى النهاية يبين لنا ميل الجدوى الاجتماعية من تحقيق المساواة بين النساء وبين الرجال بأمرين هما العدالة والمنفعة. ومنذ انطلاق الدعوة إلى تحرير المرأة عندنا فى مصر يميل أعداء المرأة إلى التذكير بأن لنا هويتنا وخصوصيتنا النابعة من ديننا فى تناول موضوع المرأة. ولكن من الواضح أنه لا توجد أى خصوصية، فالحال فى انجلترا كان مطابقا للحال فى مصر والحجج هى نفس الحجج.
كتب ميل كتابه قبل صدور كتاب قاسم أمين تحرير المرأة بثلاثين عاماً فقط، أى أنهما صدرا فى غمار نفس المرحلة التاريخية وتحولت أفكارهما فى مجتمعيهما إلى قيم وقوانين ومؤسسات. والمقارنة بين وضع الجنسين فى المجال العام أيام جون ستيوارت ميل وقاسم أمين وبين وضعهما اليوم فى مصر وانجلترا يبين مدى الإنجاز الهائل الذى تم وما كان له أن يتم إلا لأن مسار التاريخ، كما يقول ميل، والاتجاهات التقدمية فى المجتمع لا تؤيد هذا النظام القائم على اللامساواة فى الحقوق بين الرجل والمرأة... ومجرى التيارات الحديثة كلها يبرهن على أن هذا الوضع البالى من أوضاع الماضى لن يتفق مع المستقبل وأنه لا بد له بالضرورة أن يزول.