عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
شاكوش.. وما بعد الحداثة
24 مارس 2020
صلاح سالم


أثارت أغنية (بنت الجيران) لمطرب المهرجانات حسن شاكوش جدلا كبيرا حول سر ذيوعها رغم رداءتها الفنية، وخصوصا حول ملابسات أدائه لها بألفاظها المسيئة، ضمن حفل عام في استاد القاهرة. وقد راوحت الآراء بين من تنكر لها ودعا إلي محاربتها وأمثالها باعتبارها تعبيرا عن ظاهرة (التفاهة الثقافية) وخير من عبر عن هذا الاتجاه الصديق القس د. إكرام لمعي، عالم اللاهوت، في صحيفة الشروق. وبين من أكد أن الذوق الذي راجت لديه موجود فعلا في المجتمع، والأجدي من محاربتها ونظائرها من أغاني المهرجانات دراسة التحولات التي قادت إليه، وخير من عبر هذا الاتجاه الصديق د.أحمد زايد عالم الاجتماع البارز في الأهرام.



والحق أن كلا الكاتبين علي حق، وأنهما يكملان بعضهما، حيث قال كل منهما نصف الحقيقة، وأوصي بنصف العلاج، فمن المهم دراسة تحولات الذوق الفني المصري، حيث تراجع الطلب علي ما يمكن تسميته بـ (الفن الحداثي)، أي الفن المثقف، حامل القيم الأساسية والمثل العليا لمجتمعنا المتمدن، الذي تقوم علي إنتاجه مؤسسات الدولة نفسها أو التيار المتنور في المجتمع كمعهدي الكونسرفتوار، والموسيقي العربية، ودار الأوبرا المصرية وحتي الإنتاج الكلاسيكي للإذاعة والتليفزيون، وتسهم في ترويجه مهرجانات مثل جرش، وقرطاج، وبيروت، والقاهرة. لكن، وحتي تكتمل دراسة الظاهرة ويبدأ علاجها، يجب ألا نسمح بتقنينها والاعتراف بها حتي لا تشوش علي إنتاج التيار الرئيسي في الفن المصري، والذي يستند في طريقة تأليفه وعرضه وتذوقه إلي فلسفة الحداثة، تلك التي تمنح للمبدع دورا مركزيا علي جميع المستويات: الفكرية والأدبية والفنية، بل تجعل منه مشرعا أخلاقيا يصوغ المعايير الحاكمة للتذوق الجمالي.



والمؤكد هنا أن تراجع الفن الحداثي يرتبط ارتباطا وثيقا بتراجع المكون الحداثي بقيمه العقلانية في كل أنظمتنا الثقافية والتعليمية والإعلامية، يرتبط بتراجع أكثر عمقا في بنية الطبقة الوسطي التي لا يتآكل حجمها فقط قياسا إلي نمو الطبقة الدنيا واتساع كتلة المهمشين، بل تتراجع نوعيتها أيضا، فصارت أقل ثقافة وعلما وذوقا عما كانت قبل عقود. نعم كانت هناك دوما أغان شعبية تلبي مستوي أدني من ذلك الذوق الرفيع الذي جسدته أعمال كبار مطربينا وملحنينا أغلب سنوات القرن العشرين، فمقابل أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم وغيرهم كان هناك عدوية وكتكوت الأمير وغيرهما، لكن ثمة جديدا يتمثل في أمرين: أولهما أن الفن الحداثي (العالم) لم يعد هو السائد، بل يكاد يتحول إلي هامش في مواجهة الفن غير العالم الذي يكاد يصبح هو المتن، وهنا تكمن المشكلة الحقيقية، ففي كل مجتمع يوجد تيار أساسي عريض يمثل القاطرة التي تجر خلفها باقي العربات حتي لو كانت إحداها عربة بضائع (السبنسة) تعكس تيارا هامشيا، يكاد لا يختفي، حيث يظل الوعي المحافظ قائما بنسبة ما في أي مجتمع حداثي، وتبقي التيارات القومية المتطرفة موجودة في أي دولة مهما بلغ تسامحها السياسي، وتستمر التيارات الدينية الأصولية في جل الثقافات مهما بلغ مستوي علمنتها، لكن المهم ألا يتسع هامشها جميعا إلي ذلك الحد الذي يمكنها من معاندة التيار الرئيسي، ففي تلك الحالة تتحول السبنسة إلي قاطرة مفترضة، تضطرب معها حركة المجتمع وتتفرق به السبل. وثانيهما أن الأغاني الشعبية قد تحولت إلي أغاني مهرجانات، والفارق كبير بين الأولي من قبيل بنت السلطان التي غناها عدوية، وعبرت عن محب غير مثقف يخاطب حبيبته بمودة واحترام يليقان بمفهوم الحب رغم طريقة تعبيره التي تتناسب وذائقته ما كان يسمح بنسبتها إلي (الفن) ولو الشعبي، وبين الثانية كبنت الجيران التي تعبر عن عنف عاطفي واستخفاف بالقيم، لا يمثلان ثقافة طبقة اجتماعية ولو شعبية بل يعكسان وعي قلق لحزام عشوائي صار، للأسف، عابرا للطبقات.



والحقيقة أن شيئا يشبه ذلك حدث في الغرب، فأغاني المهرجانات أصلا ظاهرة غربية، يمكن اعتبارها تنويعة علي حركات التمرد الثقافي والفني ضد التيار الرئيسي في الحداثة، إنها تشبه ظاهرة الهيبز في خلفيتها الثقافية، وموسيقي الروك أند رول والجاز وتقاليع البوب في طريقة تعبيرها الصاخبة والاحتجاجية. بل يمكننا تأصيلها في النظرية الثقافية لـما بعد الحداثة، تلك التي تنفي مطلقات الحداثة، وعلي رأسها مركزية الذات الفردية، وأولوية المبدع ودوره في التشريع الجمالي والأخلاقي للمجتمع، لحساب أولوية المتلقي حيث يموت المؤلف أو يذبل ويعيش القارئ أو يزدهر، إذ يمكن بسهولة مد مقولة رولان بارت عن «موت المؤلف» إلي موت الفنان (مؤلف الطقس الفني)، ومقولة حياة القارئ إلي حياة المستمع (متلقي الطقس الفني)، الذي صار معيارا وحيدا لنجاحه، فيكفي قبول الجمهور لأي عمل حتي يروج وينتشر، دون أي رقابة مؤسسية أو وساطة نقدية.



التطور الأخطر هنا هو ذلك الاختلاط العبثي الذي وقع بين مطربي الأفراح والفنادق، وأماكن اللهو المؤهلين لإحياء مناسبات وتسلية جمهور خاص، وبين مطربي التيار الرئيسي المعني بخطاب الجمهور العام، فإذا بالمطرب يبدأ ليلته في مسرح وأمام جمهور عام، وينهيها في فرح أو ملهي ليلي مع جمهور خاص، وهو التطور الذي فتح الباب أمام كل من لديه القدرة علي رفع عقيرته ليتحول إلي ظاهرة رائجة. ولذا فإن المواجهة الفعالة مع أغاني المهرجانات تبدأ من منع ذلك الخلط بين المتن والهامش، بين العام والخاص، فالمشكلة إذن ليست في واقع وجود حسن شاكوش في حد ذاته، فذلك عرض لمرض أعمق، كما يذهب د. أحمد زايد، محقا، لابد من دراسته وعلاجه علميا وثقافيا وتربويا بما يعيد للفن الحداثي حضوره وألقه ويزيد من الطلب عليه مجددا، بل في واقعة استدعائه إلي حفل عام ينتمي إلي حيز الفن العالم ويجسد قيم التيار الرئيسي، فيما الرجل يفتقد كليا إلي شروطهما كما ذهب د. إكرام لمعي. نعم لا نستطيع ولا نريد أن نقمع بالقانون ذوق تيار في المجتمع يطلب فن المهرجانات، ونعم تحتاج مواجهة ذلك الفن إلي عمليات تربوية وثقافية معقدة، ولكن ليس مقبولا استدعاؤه والاعتراف الرسمي به، فمثل هذا السلوك يغذيه ويرسخه، ويهدر مشروعية حصاره.