عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
أزمة سد النهضة واستشراف المستقبل
14 مارس 2020
سفير ـ محمد مرسى عوض


أصبحت أزمة سد النهضة الآن قضية الرأى العام الأولى فى مصر، وفاق الاهتمام الشعبى بها ما يطفو إلى السطح أحيانا من شواغل لا تستحق الكثير من الاهتمام، كتراشقات كرة القدم، وتجاوزات من يطلق عليهم نجوم الفن الشعبى. ويمثل هذا التحول فى حد ذاته عاملا إيجابيا مشجعا فى تفاعلنا مع أزمة سد النهضة، باعتبارها نقطة انطلاق إلى قاعدة ورصيد شعبى لا غنى عنه، داعم لتوجهات القيادة السياسية وقراراتها فى شأن هذه القضية الوجودية.



وأذكر أن وزير الخارجية فى خلال زيارته لندن عام 1996 كان يحاور بعض محدثيه، وتطرق الحديث إلى إثيوبيا وعلاقاتها بمصر، وباغتنى بسؤال عن تقديرى لما أسمع، فأجبته دون تردد: سيبقى مناخ الشك وسمة التوتر قاعدة العلاقات المصرية الإثيوبية ما بقى النيل ينساب شمالا.



تذكرت بكل أسف هذه الواقعة عقب رفض إثيوبيا المشاركة فى جولة المفاوضات الأخيرة فى واشنطن 27 و28 فبراير الماضى، وما أعقب ذلك من بيانات وتصريحات متبادلة، وصلت من إثيوبيا إلى حد الاستفزاز، حتى إن كانت لأغراض الانتخابات والاستهلاك المحلى، وذلك رغم جولات مفاوضات تعددت أطرها منذ تسعينيات القرن الماضى، وازدادت وتيرتها بعد شروع إثيوبيا فى تنفيذ مخطط بناء سد النهضة عام 2011، ثم مرورا بإعلان المبادئ الذى وقع عام 2015 بالخرطوم بين قادة دول حوض النيل الشرقى الثلاث: مصر والسودان وإثيوبيا.



استدعاء ذاكرة التاريخ تفيد كثيرا فى قراءة الحاضر واستشراف المستقبل، خاصة فى قضايا الوطن الكبرى، التى فى القلب منها قضايا المياه والسدود. لقد فطن أجدادنا الأوائل منذ آلاف السنين لضرورة تأمين منابع النيل، بدءا من بحيرة فيكتوريا، وتواصل هذا النهج حتى عهد محمد على، حيث امتدت حدود دولته الحديثة إلى مشارف فيكتوريا، وبما يعنى أن وجودنا فى حوض النيل وتعاوننا مع باقى شعوبه كان ولا يزال ضرورة تمليها اعتبارات الأمن القومى بمفهومه الشامل، وسيبقى كذلك إلى أن يتوفى الله الزمان والمكان. لكن الحديث عن قضية وجودية كالمياه يجب أن تضبط فى أطر محددة بكل جوانبها ومرجعياتها التاريخية والقانونية والسياسية والاقتصادية والفنية والأمنية، وأن تحرر الكلمات والمصطلحات فى صياغات دالة ودقيقة ترقى إلى مستوى خطورة القضية وأهميتها وتعدد تقاطع مساراتها وأبعادها، وهى محاور حديث تتطلب دراسات متخصصة ساحاتها قاعات البحث ومنتدياتها والصحافة ووسائل الإعلام الأخرى الرصينة.



إن لمصر فى مياه النيل حقوقا تاريخية ثابتة ومستقرة، تدعمها بكل وضوح القوانين والأعراف الدولية، وعلى رأسها تلك الخاصة بالأنهار الدولية، وحقوق والتزامات دول المنابع والممرات والمصب، وحتى وإن لم تكتمل نصوصها حتى الآن. تدرك مصر هذه الحقيقة، وتستند إليها وتنطلق منها فى بناء موقف متماسك يحفظ حقوق الأجيال المقبلة، وذلك إيمانا بحق دول حوض النيل فى التنمية، مع احترام حقوق مصر التاريخية فى مياه النيل، علاوة على اقتناع مصر بأن التفاوض بنيات حسنة والتعاون هما المسار الطبيعى لتقريب وجهات النظر وتسوية الخلافات، بل وتغطية وتنمية موارد النهر وبناء قاعدة تعاون وتكامل متعدد الجوانب بين دول الحوض لمصلحة شعوبه، الفقيرة فى معظمها. ولهذا جاءت مبادراتنا المتعددة وعبر سنوات طويلة فى إطار دول حوض النيل، وكذا مبادراتنا للتعاون بين دول حوض النيل الشرقى وهي: مصر، والسودان، وإثيوبيا، وقطعنا فى سبيل ذلك شوطا طويلا لم تعرقله سوى بعض التدخلات الخارجية والنيات غير الصادقة والتطورات والأحداث الداخلية فى الدول الثلاث وفى الإقليم بشكل عام.



لمصر الآن قراءة ورؤى واضحة لقضية المياه وأزمة سد النهضة بكل جوانبها سواء الداخلية منها والمرتبطة باستخدامات المياه وترشيدها وتطوير وتنويع مصادرها وتطوير تقنيات الزراعة والرى وأنماط الاستهلاك وغير ذلك، أو تلك المرتبطة بالأبعاد والظروف الإقليمية والدولية والتى تدار فى ظلالها الأزمة. ونقصد بذلك مواقف دول الجوار وتوجهاتها إزاء مصر، وكذلك مواقف الدول الكبرى، وارتباط ذلك بحالة السيولة والحراك واتساع مساحة المنطقة الرمادية التى تدار فيها العلاقات الدولية فى هذه الحقبة، وفى القلب من ذلك تأتى مساعى إعادة تشكيل منطقتنا وتقسيمها من جديد، بما يخدم مصلحة الدول الكبرى ومصالح القوى الإقليمية المرتبطة بها، والتى أصبح لديها الآن ما يطلق عليه ـفائض القوة الذى تسعى لتوظيفه وسط أجواء مواتية للعبث بمقدرات شعوب المنطقة التى تمر دولها الآن بمرحلة ضعف شديدة، ولنا أبرز مثال على ذلك فيما يدور فى سوريا، والعراق، وليبيا، واليمن، والملف الفلسطينى وغيره. ولهذا، فمن الضرورى الآن البناء على رصيد الثقة الشعبية الحالية فى القيادة السياسية، وفى فريق التفاوض المحترف فنيا وسياسيا، والذى يخوض الآن حرب مفاوضات شاقة.



وبقدر ما نطالب المؤسسات المعنية بإطلاع الرأى العام على أكبر قدر ممكن من الحقائق التى لا يلحق الكشف عنها ضررا بمسارات التفاوض وإدارة الأزمة، وذلك فى جو من الشفافية، فإن ما نراه ضروريا الآن هو تأمين الاصطفاف وراء القيادة واستمرار تماسك ظهير شعبى واع لحقيقة عدم استهلاك فريق التفاوض أو القيادة فى جدل وقضايا قد تؤثر سلبيا على مواقفنا التفاوضية.



فرغم صعوبة الأزمة وانحسار مساحة المناورة واستخدام الكثير من أوراق الضغط أو التفاوض، إلا أنه ما زال لدينا قدر من أوراق القوة والضغط التى لم نستخدمها بعد، والتى ربما حان موعد استخدامها إلى جانب مسار التفاوض الحالى، وذلك سواء فى إطار الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية ذات الصلة أو على المستويين الإفريقى والأوروبى وروسيا والصين، أو فى الإطار المتعدد الأطراف: الاتحاد الإفريقى، والمنظمات الإقليمية الإفريقية، والأوروبية، وكذا إعادة استثمار الدور المصرى المؤثر عربيا وإقليميا بما يخدم مصالحنا وموقفنا فى إدارة أزمة سد النهضة، علاوة على باقى البدائل المتاحة والتى لا تغيب عن ذهن متخذ القرار. ولوسائل الإعلام ومراكز البحث دور محورى فى توعية الرأى العام بهذا الملف المصيرى، وهو دور ستتعاظم الحاجة إليه فى مقبل الأيام.



-----------------------



 مساعد وزير الخارجية الأسبق