عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
كيميا
14 فبراير 2020
د. سهير المصادفة


"كيميا" ليست رواية جميلة فحسب، وإنما هى أيضًا جريئة، على صعيد الشكل وجمالياته الفنية الحديثة والأسلوب السهل الشيق، وأيضًا على صعيد الموضوع وكيفية تناوله من منظور جديد، والشجاعة فى طرحه بطريقة مبتكرة، لا تنساق وراء التاريخ وتمجيد وتقديس ما هو مقدس بالفعل، وإنما لمسائلة الأوثان القديمة ومَن نصَّبها وطالبَ بعبادتها.



.....................................



بعد أن انتهيت من قراءة رواية "كيميا" للكاتب المصرى "وليد علاء الدين"، لا أدرى لماذا تذكرت مقولة الإمبراطور الفرنسى "فرانسوا جوزيف" للأمير عباس الابن الأكبر للخديوى توفيق: "إن أجمل طريقة للوفاء للموتى هى العمل على خدمة أفكارهم وتخليدها"، ووجدت نفسى أضيف للعبارة: "أو الثأر للمظلومين من الراحلين الذين قُطفتْ أرواحهم غدرًا".



ورواية "كيميا" تثأر لروح فتاة صغيرة من التاريخ، وممَّن ظلموها مِن الكِبار الخالدين، اسمها بالفارسى يعنى "الكيمياء" التى نعرفها كعلم، أو كما جاءت على لسان أحد أصدقاء الراوى أحمد حيدري: "أن اسم "كيميا" منتشر بكثرة فى إيران، يطلقه الأهل على بناتهم، ولكنه عند تحوله إلى اسم فتاةٍ لا يعود يعنى "الكيمياء"، وإنما يحمل ظلال معانٍ منها: "النادرة" أو "القيمة" بمعنى ذات القيمة العالية". بطلة الرواية الحاضرة / الغائبة هى فتاةٌ نورانية تُشبه الملائكة سقطتْ وفقًا لوصف الروائى وسط العربات المطهمة وهى تصعدُ بجلال الدين الرومى وشمس الدين تبريزى إلى فضاء الشهرة والخلود.



تتناول أحداث الرواية شخصية "كيميا" الخارجة من أوراق التاريخ وتحديدًا منذ ثمانية قرون، كانت قد عاشت فى بيت "جلال الدين الرومي"، وأحبها ابنه "علاء الدين" وأحبته، ولكن القطبُ الأكبر أهداها إلى صديقه "شمس الدين تبريزي"؛ ليتزوجها فتموت البنت ذات الاثنى عشر عامًا بعد زواجها بأشهرٍ قليلة من رجلٍ يكبرها بقرابة نصف القرن.



يسافر الكاتب إلى قونية؛ لتأليف كتابٍ عن ضريح مولانا "جلال الدين الرومي"، وذلك فى إطار احتفاء اليونسكو بالمئوية الثامنة لميلاده، أى أن زمن الرواية وتاريخ الرحلة فى عام 2007، رغم صدور الرواية فى 2019. يجد الكاتب نفسَه مسلوبًا للبحث عن قبر "كيميا" التى عرف بوجودها من روايتين شهيرتين هما: رواية "قواعد العشق الأربعين" للكاتبة التركية "إليف شافاق"، ورواية "بنت مولانا" للكاتبة البريطانية "مورل مفروي".



ولا يكتفى الروائى بجلبِ الشخصيات الحقيقية من التاريخ ورفعها لاعتلاء مسرح أحداث روايته، ولكنه يستخدم أيضًا أسماء شهيرة لكُتَّابٍ معاصرين مثل الشاعر "نورى الجرَّاح"، و"أحمد حيدري"، علاوة على اسمه الحقيقي: "وليد علاء الدين" كبطل للرواية يتبادل قناع الرواى مع "علاء الدين" بن "جلال الدين الرومي" حتى أن "علاء الدين" يقول للروائى / الراوى "وليد علاء الدين": "أنتَ معكوسى فى عالم الصورة بعد انتقالى إلى عالم الحقيقة".



يتفق الروائى مع القارئ على لعبةٍ سردية مكشوفة وشديدة الوضوح منذ الصفحات الأولى للرواية، وهى أن يدفع أحداث الحكاية بوسيلة أسماها: "الحلم الصافي"، وعرَّفه بأنه حالة علمية مرضية يكون الحالمُ أثناءها فى حالةٍ بين اليقظة والمنام، ويتوقف عن حلمه أحيانًا، ثم يعود ليتابعه، وكأن الكاتب هنا يصفُ حالة التأليف نفسها، أوَ ليست هكذا تُكتبُ الروايات؟! إذًا يعود الروائى ثمانية قرونٍ إلى الوراء بجسده وروحه، ليرى "كيميا" أثناء طفولتها وهى تلعب مع عنزتها، وتهمس له بمشاعرها الحقيقية، وتحكى له كلَّ شيء عن عائلتها، وتفرِّجه على بيتها بمسقط رأسها فى مدينة بلخ بأفغانستان حاليًا، وهو مسقط رأس "جلال الدين الرومي" نفسه.



وأثناء رحلتنا لإيجاد قبر "كيميا" المظلومة، والمهدور حقها تاريخيًّا، سنقف بالتأكيد عند العلاقة الشهيرة والمعقدة والشائكة بين مولانا "جلال الدين الرومي" ومريده ومعشوقه "شمس الدين تبريزي" أحد الصوفيين الكبار الذى التقى "الرومي" أثناء مروره بقونية، فأثر عليه حتى سلبه عقله؛ ليتحول من إمام وداعية ومفسر للقرآن إلى صوفي، يستمع إلى "شمس" ولا يرفض له طلبًا أبدًا، سنجد أنفسنا نتساءل من جديدٍ عن أسطورية هذه العلاقة ونزقها وثورة ابنه الأصغر "علاء الدين" على استلاب هذا الغريب العابر لأبيه. بالتأكيد سيشتبكُ المؤلف مع عديد المصادر والمراجع الصوفية المعروفة، ومنها مؤلفات "جلال الدين الرومي" نفسه وأشهرها: "المثنوي"، وسنمرُّ على طقوس السماع وسنلفُّ مع تنورات المولوية، وسنتابع الرفاعية وهم يلعبون بثعابينهم ونيرانهم، وسنتأمل محاكمة المؤلف لروايتي: "إليف شافاق"، و"مورل مفروي" وهو يقول: "لا تترك لنا شافاق حتى فرصة للغضب من "جلال الدين الرومي" الذى قدم "كيميا" قربانًا لشمس، أو من الأخير الذى قبل القربان وهو يعرف أنه لا يجيد ملامسة النساء، فالذنب كله فى اختيار العاشقة الساذجة الصغيرة". ثم يضيفُ: "فى المصادر التى تناولت حياة "الرومي" و"شمس" لم تُذكر "كيميا" إلا بما يكرس أسطورة الرومي: طفلة صغيرة تحلم بالصوفى الكبير وتخاطبه، هى فى بلخ وهو فى قونية، بينهما مسافات طويلة، ولم تقابله من قبل! ومصادر أخرى لم تذكرها، إمعانًا فى تنصيبها أيقونة لكل مَن يتعذبون ويرحلون فى صمت وسط ضجيج مواكب العظماء".



يهاجم الراوى طريقة "شمس الدين تبريزي" الصوفية، ويدهش من مقولته التى كان يرددها دائمًا؛ ليفعل ما يحلو له: "ليس على العاشق حرج"، تلك المقولة التى جعلته لا يلتفت وهو شيخ كبير فى الثانية والستين إلى حُلم عاشقين صغيرين هما "كيميا" و"علاء الدين"، فاتخذ الفتاة الصغيرة وهى فى عُمر أحفاده زوجة، وأيضًا أشار إلى المكاسب المادية من بعض ترهات الطُرق الصوفية، حيث كان "سلطان" ابن "جلال الدين الرومي" الأكبر يُدخل الناس إلى مولانا ومريده شمس للحصول على البركة مقابل الذهب والأموال والهدايا. يقول "علاء الدين": "بعد غياب شمس توجه أبى نحو "الزركوبي"، الصائغ الأمى الذى لا يجيد قراءة أو كتابة كلمة واحدة، فقدَّسه أخى "سلطان" وصار ملازمًا له كنعله، وكذلك فعل مع "الجلبي" البستانى الذى قربه مولانا بعد وفاة "الزركوبي"، فصار سلطان مريدًا تابعًا له، وخشى أن ينافسه على الطريقة بعد رحيل أبينا، بل راح ينتظر منه أنصبتهم من عوائد الوقف وعطايا المريدين والنذور والهدايا بعد أن يوزع على الأصدقاء وأصحاب الحاجات وينفق على مآدب الضيافة ومجالس السماع".



تقود روح "علاء الدين" بن "الرومي" خطوات البطل؛ لكى يثأر له من أبيه "جلال الدين الرومي" الذى منح حبيبته هدية سائغة لمريده "شمس الدين تبريزي"، وفى طريقه لوضع شاهدة على قبر "كيميا" إذا ما وجده، يفضح السارد كلَّ ما يحيطُ بالقطب ومريده من أكاذيب وانتهاكات للإنسانية، قاما بها على مسمع ومرأى من الجميع؛ لكى يخلدا إسطورتهما.



لا يجدُ البطل "وليد علاء الدين" قبر الفتاة الصغيرة بالطبعِ، كما أن روح "علاء الدين" لا تستطيع أن تدله على قبرها، ولكنه ينجح فى عمل شاهدة قبرٍ جديدةٍ باسمها، ويهربها إلى ضريح "جلال الدين الرومي"، فيدله "علاء الدين" قائلًا: "أرح ضميركَ.. ضع شاهدة الضريح، اغرسها هنا فى قلب مقبرة قاتليها، دع الناس يعرفون قتيلة مولانا، اغرس السؤال بين صدورهم، ضع بذرة الفكرة، ولا شك سوف تنبت".



وبالفعل يتسلل البطل أثناء الاحتفالات بمئوية مولانا إلى ضريحه، ويغرس شاهدة "كيميا" إلى جوار شاهدة قبره، لعلَّ الضحية تُشير إلى قاتليها.