حرب المصالح.. وتهديد مؤسسات الاقتصاد الدولى
قد لا تكون مزحة إذا ماقلنا أن تأثير واستقلالية منظمة التجارة العالمية وغيرها من المؤسسات المالية والاقتصادية كالبنك وصندوق النقد الدوليين قد أصبحت من الأساطير القديمة مثلها فى ذلك مثل العنقاء والخل الوفى، فيما يكون التشبيه الأقرب لهذه المؤسسات هو «إنسان الغاب» فى ظل شريعة دولية وتوازنات لا تعترف إلا بالأقوى والأكثر نفوذًا وقوة عسكرية وسياسية.
تقدم النزاعات التجارية الأخيرة، بين الولايات المتحدة والصين وغيرها من التكتلات الاقتصادية، مثالاً واقعياً تعلوه مسحة من التراجيديا الجيوسياسة لما آلت إليه أوضاع منظمة التجارة العالمية تحديداً، والتى تلاشت تقريباً - أو كادت- فى التحكم فى التجارة الدولية ومحاولة صياغة علاقات متوازنة بشأن التبادلات وآليات النفاذ للأسواق. كما كانت الآمال معقودة عليها لدى إنشائها قبل عشرات السنين.
ويبدو استرجاع شريط اللقاءات والاتفاقات، التى أبرمت قبل سنوات طويلة وجولات المفاوضات المطولة، التى عقدت مع إطلاق نظام تجارى عالمى موحد وعادل، كمطالعة ألبوم صور قديمة لعهد ولى وأصبح ذكرى فى واقع لايعترف إلا بالمصالح الفردية والقوة التى يتحكم فيها التمويل والسطوة السياسية التى تمنح أو تمنع، والتى تتجلى بشكل واضح فى تحكم القوة العظمى أو «السوبر باور» بالأمور، وهى الولايات المتحدة الأمريكية كلاعب رئيسى فى الاتفاقيات التجارية الدولية عبر فرض العقوبات الاقتصادية وسياسات التحجيم السياسى على الساحة الدولية.
خلال السنوات الأخيرة، تم التشكيك فى قدرة منظمة التجارة العالمية، باعتبارها الهيئة العليا لقواعد التجارة، وسط جدل متزايد حول فقدان المنظمة أهميتها لمعالجة العديد من قضايا التجارة الحديثة وحل النزاعات بين أعضائها.
فيما بدأ عدد متزايد من الدول الأعضاء - ومعظمهم من العالم المتقدم - بالتشكيك فى قدرة الهيئة التجارية على حل النزاعات المشتعلة، كما ظهر شعور مماثل بين الدول النامية، لأنها تشعر أن منظمة التجارة العالمية فشلت إلى حد كبير فى حماية مصالحها، وهو ما أعربت عنه صراحة فى اجتماع مجموعة العشرين فى اليابان. ولايبتعد دور البنك وصندوق النقد الدوليين، بل ومؤسسة التمويل الدولية التى تمول مشاريع القطاع الخاص، كثيراً عما آلت اليه الأمور فى منظمة التجارة العالمية، فالرضا الأمريكى أصبح جواز المرور للحصول على القروض وبرامج المساعدات للحكومات والقطاع الخاص، فيما أصبحت تقارير هذه المؤسسات سيفاً مسلطًا على رقاب الدول المستفيدة إذا ما خالفت التوجهات الأمريكية. ويظل السؤال الأهم ..ماهو مستقبل منظمة التجارة؟؟
والإجابة عليه تتطلب العودة لنشأة المنظمة التى وضعت قواعد التجارة الدولية، حيث أسهمت على مدى ٢٥ عاماً فى تقليل الحواجز أمام تجارة السلع والخدمات. وأنشأت نظامًا لحل النزاعات، ظن مؤيدوها أنه يقلل من خطر الحروب التجارية!، وهو مابرهنت الأيام خطؤه فى ظل تعثر المفاوضات حول الإعانات الزراعية وحقوق الملكية الفكرية. وانتقد الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، منظمة التجارة العالمية لما وصفه بضعفها فى مواجهة انتهاكات الصين التجارية والقيود على السيادة الأمريكية، فيما شلت إدارته، هيئة الاستئناف التابعة للمنظمة عن قصد، مما يضمن عدم إمكانية تنفيذ قراراتها وجعل مستقبل قواعد التجارة العالمية موضع شك. ودفع تنامى الظاهرة تحول العديد من الدول إلى اتفاقيات تجارة حرة ثنائية وإقليمية، فيما عبر ترامب عن شكوكه العميقة حول التعددية، مفضلاً التعامل مع الشركاء التجاريين على أساس ثنائى، فانسحب من تكتل المحيط الهادئ فور توليه منصبه. قد يقلل البعض من نظرية المؤامرة التى تساق كثيرا فى شئون التجارة الدولية، والتى تؤكد التحكم الأمريكى فى شئون وسياسات هذه المؤسسات المالية، ولكن الواقع يؤكد هذه الفرضية، ولكن الانتقادات الموجهة إليها، تؤكد أن هذه الآليات لم تعد مستقلة وأن لغة المصالح تعلو بشكل صارخ على الاتفاقات الدولية. الجماعية فى عودة لسياسات الاتفاقات الثنائية وتوازنات القوى.
لقد حان الوقت لتوحيد الدول الأعضاء واعتماد تدابير تصحيحية لحماية منظمة التجارة العالمية من فقدان أهميتها، وبالتالى تجنب خطر انهيارها، ففشل المنظمة سيكون صدمة ليس فقط للنظام التجارى المتعدد الأطراف ولكن أيضًا للاقتصاد العالمى ككل..