عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
سجل حافل بالشخصيات الإنسانية
5 فبراير 2020
أحمد السماحى


الفنان بطبعه عاشق للأضواء، وقد يجره فنه إلى حتفه، وغالبا ما يستمر متشبثا بهالة الضوء المسلطة عليه حتى تمتد الأيدى التى صفقت له لتصفعه، وتتشقق الحناجر التى هتفت له لتهتف ضده، والنجمة نادية لطفى لم تنتظر هذه اللحظة فقد تغلبت العظمة التى بين جوانحها على الفن الذى يسرى فى دمها، حين اختارت اللحظة المناسبة لتنسحب من الساحة الفنية وتخلى مكانها المفضل تحت هالة الضوء، وكان قرارا صعبا ولكنها تحملت الموقف بشجاعة لهذا ظلت صورتها مبهرة ومضيئة حتى الآن.



نتوقف عند بعض أفلامها التى قدمت فيها مشاهد صامتة جعلت منها صلاة وعشقا وثورة، لأن نادية لطفى ليست فقط «ماجي» «النظارة السوداء»، ولا شهرت «قاع المدينة»، ولا زنوبة صبية العالمة «قصر الشوق»، ولا ريرى «السمان والخريف»، ولا بسيمة بائعة البرتقال فى «الأقمر»، ولا لولا فى «الأخوة الأعداء» ولا غيرها من الدرر السينمائية التى قدمتها، ولكنها استطاعت أن تترك بصمة فى كثير من المشاهد الصامتة فى أفلام لم تحظ بالشهرة العريضة التى حظت بها الأفلام التى ذكرناها.



فمثلا فى بداية مشوارها الفنى عام 1960 جسدت فى رابع فيلم لها وهو «عمالقة البحار» دور الخطيبة السورية المسيحية للبطل السورى «جول جمال»، وفى أحد المشاهد اكتست ملامحها بنوع من البراءة وهى تصلى فى صمت شديد البلاغة أمام العذراء، حالمة بعودة الحبيب الذى نعرف كمشاهدين أنه لن يعود، ورغم مرور سنوات طويلة فلا تزال هذه اللقطات تعبر أصدق تعبير ودون جملة حوار واحدة عن المشاعر القومية الجارفة.



نفس مشاهد الصمت البليغ سنجدها فى دور «لويزا» الفتاة المسيحية الأوروبية التى تصاحب إحدى الحملات الصليبية، والتى تقع فى حب المسيحى العربى «عيسى العوام»، فيتكشف لها زيف الحملات الاستعمارية التى تتستر وراء الدين، فتنزل دموعها فى صمت فى أحد مشاهد النهاية لتؤكد موهبة نجمتنا الذهبية .



وتقدم لحظة صدق بالغة الدلالة والتكثيف والعمق فى فيلمها «الباحثة عن الحب» عندما تعلم بموت طفلها الرضيع، فتنتقل سريعا من غرفته إلى غرفتها وهى تكاد تجن، وكل هذا دون أن تنطق بحرف واحد، فى هذا المشهد عبرت بوجه مليء بالذهول عن ندمها وحزنها، ولم تلجأ للصراخ أو المبالغة، رغم أن المشهد يتحمل المبالغة.



أما فى فيلم «المستحيل» فاستطاعت أن توحى بالمرأة الحائرة التى تعيش أزمتها النفسية مع زوج لا تحبه، لكنها فى النهاية تخضع لتقاليد وعادات المجتمع، ويعتبر مشهدها الصامت مع زوجها «عزيز» الذى يريد أخذ حقه الشرعى قبل سفره لبورسعيد وهى لا تريد، أحد أجمل مشاهد الفيلم وعبرت بوجهها فقط عن رفضها وكرهها لما يريده الزوج.



ولا يمكن أن ننسى نظرات» زينة» الصامتة فى فيلم «المومياء».. هذه النظرات التى يجب أن تدرس فى معاهد التمثيل، أبرزها فى وكر مراد عندما اكتشف حقيقة مهنتها كداعرة وهو الذى كان قد بدأ يتعلق بها، فى هذا الموقف الخاطف يعتبر من أفضل ما مثلته نادية لطفي، فقد قالت بعينيها العميقتين أشياء كثيرة دون أن تنطق حرفا واحدا فى دورها كله الذى لم يستغرق أكثر من ست لقطات، ومع ذلك فرضت شخصيتها على الفيلم كنفحة جمال رطبة مرت سريعا، ومثلت حلما عابرا لونيس لم يكد يمسك به فى ذروة مأساته حتى أفلت مثل كل شيء من بين يديه.



وتؤكد فى فيلم «على ورق سيلوفان» أنها تملك منجما من العواطف والإنفعالات من خلال وجهها المدهش المعبر، ومثلما فعلت فى المشهد الواحد الذى عبرت فيه بعينيها فى «المومياء» فإنها تصل إلى قمتها فى هذا الفيلم فى المشاهد الصامتة التى تصبح فيها فى مواجهة الكاميرا وحدها فى لقطة كبيرة، ويصبح على الممثل أن يملك وسيلته الخلاقة فى توصيل كل شيء إلى المتفرج بمجرد قدرته على التعبير.



وفى فيلم «قاع المدينة» تقدم أفضل مستوياتها كممثلة، وترتفع فى بعض المشاهد بمستوى الفيلم كله وبمجرد النظرة الصامتة أحيانا، فقدرتها الرائعة على التعبير ترتفع بها وبالفيلم إلى درجات عالية من الأداء، خاصة فى مشهد النهاية الذى تحولت فيه إلى فتاة ليل.



ورغم أن فيلم «أبدا لن أعود» من الأفلام الاجتماعية البسيطة، لكنها قدمت مشهدا صامتا لم تنطق فيه غير كلمة عندما أخبرها زوجها بحبه لصديقتها، فهنا لم تتشنج ولم تصرخ لكن ملامحها المليئة بالحزن والغضب والثورة المكتومة، كانت أبلغ وأعظم من أى كلمات.



فى النهاية هذه مشاهد بسيطة من سجل حافل بالعديد من المشاهد الرائعة التى قدمتها نادية لطفى عبر مشوارها المليء بالشخصيات المركبة والبسيطة الثرية بالمشاعر الإنسانية.