عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
البنك المركزى بين الاستقلالية والمساءلة (1)
22 يناير 2020
عبد الفتاح الجبالى


يناقش فى الآونة الحالية مشروع جديد للبنك المركزى والجهاز المصرفي، وذلك فى إطار العمل على تحديث السياسة النقدية وتلافى المشكلات الناجمة عن القانون الحالى ويأتى طرح هذا الموضوع فى توقيت بالغ الأهمية خاصة مع استمرار مستوى التضخم المنخفض وتراجع معدلات الفائدة. وبالتالى صعوبة استخدام الأدوات التقليدية فى إدارة السياسة النقدية والائتمانية والتى تعنى التحكم فى عرض النقود وأدواته، بما يتلاءم مع الأوضاع الاقتصادية المرغوبة، ويضمن التشغيل الكفء للموارد الاقتصادية، واستقرار مستويات الأسعار، ويهدف المشروع، وفقا للملامح التى نشرها البنك المركزي، الى مواكبة أفضل الممارسات الدولية وتعزيز استقلالية البنك المركزى وتطوير قواعد الحوكمة وزيادة التنسيق بين الجهات الرقابية جنبا الى جنب مع التدخل المبكر لمنع حدوث الأزمات المصرفية ومعالجة أوضاع البنوك المتعثرة وتوسيع الشمول المالى وهى أمور لا غبار عليها. ويشير مشروع القانون إلى أن الهدف من وراء استقلالية البنك المركزى هو الحفاظ على استقرار الأسعار. وهنا تتباين الآراء بين هل المطلوب هو استقرار الأسعار بالمعنى العلمى المتفق عليه او الالتزام بمعدل تضخم مناسب للاقتصاد القومي. إذ إن الاستقرار الكامل للأسعار يشير إلى أن هدف السياسة النقدية هو تحقيق معدل تضخم يساوى صفرا وأيضا إذا ارتفعت الأسعار فلابد ان تعود إلى سابق حالها بينما التضخم المعتدل يدعم الاستقرار ويجعل الاقتصاد فى حالة توازن حركى منتظم ويزيد من الناتج المحلي. وهكذا إذا كان تحقيق الاستقرار الاقتصادى يترجم فى النهاية الى هدف يرتبط بالتغيير فى الاسعار فان الآراء تتباين حول ما إذا كان من الواجب على السياسة النقدية تبنى فكرة الاستقرار الكامل للأسعار أو الالتزام بمعدل تضخم تعتبره معقولا من وجهة نظرها. وهذا هو لب الحديث عن استقلالية البنك المركزي.



ويشير الفكر الاقتصادى إلى أن مصداقية السياسة النقدية، وبالتالى قدرتها على تحقيق استقرار طويل الأجل للأسعار، مع حد أدنى من التكاليف الاقتصادية الحقيقية، يتطلب بالأساس أن يكون صنع السياسة فى أيدى مسئولين بعيدين عن السياسة يكون فى استطاعتهم النظر إلى المدى البعيد. خاصة ان سياسة الصرف الحر تحتاج إلى محور ارتكاز أسمى غالبا مايتمثل فى معدل التضخم المستهدف. من هذا المنطلق تأتى أهمية العمل على تدعيم مقدرة البنك المركزى على إدارة الشئون النقدية والتحكم فى السيولة المحلية، والمحافظة على معدل ملائم لنمو النقود يضمن تحقيق نمو اقتصادى معتدل. ويرى ستانلى فيشر ان الحجج المؤيدة لاستقلالية البنك المركزى هى حجج من يبحثون عن أفضل الحلول من الدرجة الثانية. ولكن فى عالم يبحث عن أفضل الحلول فانه يجب ان تكون السياستان النقدية والمالية متسقتين تماما. فالسياسة المالية ترتبط بالسياسة النقدية من خلال الدور الذى يقوم به البنك المركزى فى تمويل عجز الموازنة العامة وعلى هذا فان العلاقة بين السياستين تنعكس فى النهاية على صافى الاقتراض الحكومى من الجهاز المصرفي. وهو ما يؤثر بدوره على السيولة المحلية والقاعدة النقدية. وحتى الآن لم تستطع الخبرة التاريخية والدلائل التطبيقية حسم مسألة الاستقلالية اذ بينما نلاحظ ان هناك العديد من البلدان ذات البنوك المركزية المستقلة لم تسطيع تحقيق معدلات تضخم منخفضة للغاية دون ان يؤثر ذلك على النمو, فهناك العديد من الدول ذات التضخم المنخفض، ولكن دون بنك مركزى مستقل. الأمر الذى يدفعنا للاعتقاد بان هذه المسالة تظل رهنا بمدى وطبيعة التطور الاقتصادى بالبلاد. وهنا يصبح التساؤل هو هل ينبغى ان يكون البنك المركزى مستقلا عن الحكومة ام لا؟ وإذا كانت الإجابة بنعم فماهى حدود هذه الاستقلالية؟ وماهى السلطات التى يجب ان تمنح له والمسئوليات التى يجب ان يضطلع بها؟ وقد حسم الدستور المصرى هذه المسألة ووضع البنك المركزى ضمن الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية (مادة 215) وهى التى يصدر بتشكيلها قانون يحدد اختصاصاتها ونظم عملها وضمان استقلاليتها. لذلك نصت المادة الـ 220 على ان يختص البنك المركزى بوضع السياسة النقدية والائتمانية والمصرفية، ويشرف على تنفيذها ومراقبة أداء الجهاز المصرفي، وله وحده حق إصدار النقد. ويعمل على سلامة النظام النقدى والمصرفى واستقرار الأسعار فى إطار السياسة الاقتصادية للدولة على النحو الذى ينظمه القانون.. لذلك إوكل القانون الحالى للبنك المركزى مهمة أساسية تكمن فى العمل على تحقيق الاستقرار فى الاسعار فى إطار السياسة الاقتصادية بالاتفاق مع الحكومة (وفقا للمادة الـ 5). مع الحفاظ على استقلاليته التامة. بحيث يمارس سلطاته دون تدخل من أحد.



وهناك عدة جوانب لمفهوم الاستقلالية سياسيا وقانونيا ووظيفيا. وهى أمور يجب دراستها وحلها بالطريقة التى تجعله يمارس سلطاته دون تدخل من أحد وهذه المسألة تتطلب ألا يطلب ولا يتلقى تعليمات من الحكومة. وان يكون مستقلا وظيفيا بمعنى ان توضع تحت تصرفه الأدوات اللازمة لممارسة السياسة النقدية بطريقة فعالة. وهذه المشكلات الثلاث توضح لنا مدى التشابك والتعقيد فلا يمكن لاى بنك مركزى ان يستقل عن الحكومة بصورة كاملة. اذ توجد العديد من القنوات الرسمية وغير الرسمية يمكن للحكومة التأثير من خلالها على السياسة النقدية يأتى على رأسها السياسة الضريبية وسعر الصرف. من هذا المنطلق نرى ان الظروف الحالية تحتاج إلى الفصل التام بين السياسة النقدية والمالية عن طريق تدعيم سلطات البنك المركزى وضمان استقلاليته عن السلطات الأخرى فى الدولة. ووضع الآليات والوسائل التى تحقق الشفافية الكاملة فى أعماله. مع ضمان التنسيق الكامل مع الحكومة وهو ما حرص عليه المشرع فأنشأ المجلس التنسيقى والمشكل من ممثلى الحكومة مع البنك المركزى وبعض الخبراء، وعلى الرغم من هذه الأهمية الا انه لم يحظ بالاهتمام الكافى منذ تشكيله وحتى الآن، وهى مسألة يجب ان تكون محورا أساسيا فى المشروع الجديد عن طريق وضع آليات محددة لاختيار الأعضاء وكذلك ضمان الحفاظ على دورية الاجتماعات واستمرارها وهو ما يتطلب النص صراحة فى القانون الجديد على هذه المسألة. فضلا عن تحديد العلاقة مع الأطر التنظيمية الأخري، خاصة المجموعة الوزارية الاقتصادية.