كنا ليلا، حين تسمرت قبل أيام على رصيف فى ميدان روكسى أضرب كفا بكف، أفتش عن وسيلة جهنمية أخرج بها من المتاهة التى حبسنا فيها من أعادوا تنظيم الميدان الكبير، كيف يمكن عبوره دون أن تسيل دماؤنا؟، صعب للغاية، السيارات تنهب الأرض مستمتعة بالتنظيم الجديد الذى يسمح لها بالطيران، بالطبع السائقون على دين ملوكهم، وإذا كان المسئولون لم يعملوا حسابا للبشر، فلماذا يتصرف سائقو السيارات بإنسانية ورحمة ويمسكون من سرعتها؟، هل يتنكرون لما درج عليه المجتمع من عادات تخاصم الضبط والربط إلا قليلا؟
يفتح ميدان روكسى فى مصر الجديدة على أربعة شوارع رئيسية، تنتشر فيها محلات تبيع سلعا من الإبرة إلى الصاروخ، ناهيك عن عيادات أطباء ومراكز صحية ودار سينما شهيرة ونادى هليوليدو ومطاعم ودور عبادة وكافتيريات..إلخ.
عشر دقائق مرت، أقدم رجلا لكن الخوف يصدني، ثم طقت الفكرة فى رأسى كحفرة انشقت فى الأرض فجأة وابتلعتني: سألت عسكرى مرور عابرا: أين ضابط المرور؟ ألتفت حوله ثم قال: فيه ونش على ناصية شارع السيد الميرغنى ربما تجده هناك. مشيت إليه لم أجده وقال أمين شرطة: الضابط فى ميدان روكسي..أى خدمة؟
سألته: كيف يعبر مواطن الشارع الذى عرضه لا يقل عن خمسين مترا وسط هذه السيارات المسرعة دون إشارة مرور؟ نظر أمين الشرطة حوله، كأنه يحاول أن يطابق ما قلته على واقع الشارع، رد ببساطة: فيه ناس قدامك عمالة تعدي..أين المشكلة؟ قلت: على طريقة البهلوانات.
لم يفهم النكتة، تركته وعدت إلى ميدان روكسي، رأيت العربة الونش واقفة أمام سينما الحمرا الصيفي، قرأت الفاتحة والشهادتين، عبرت الشارع متقافزا، يقف ضابط برتبة نقيب مع بعض معاونيه سألت: لو عايز أعبر الشارع ماذا أفعل مع هذه السيارات؟ قال بلطف: يساعدك جندى على العبور.
قلت: هذا ميدان واسع جدا لا تتوقف فيه حركة البشر والسيارات لحظة واحدة، مستحيل أن تجد عساكر مرور يساعدون كل هؤلاء الناس على عبور الشوارع. قال: نعمل ما نقدر عليه.
سألته: هل يعقل عدم وجود إشارة مرور فى ميدان يعبره مئات الآلاف من الناس يوميا؟ بسعة صدر أجاب: ليست مسئوليتي، نحن نحاول المساعدة فى حدود إمكاناتنا، هذه مسئولية محافظة القاهرة مع الجهة التى خططت الميدان. تدخل مواطن عابر فى الحديث قائلا: والدى خبطته هنا عربية من أسبوعين، تكلفنا 80 ألف جنيه لعلاجه حتى الآن.
رد مواطن آخر: ولا شارع فى مصر الجديدة بعد التنظيم الجديد فيه إشارة مرور مشاة، وتلميذ ضربته سيارة فى شارع أبو بكر الصديق من أسبوعين.
رد الضابط: لسنا الذين خططنا الشوارع، دورنا أن نحافظ على تنفيذ القانون، عدم الركن فى الممنوع، عدم تعطيل الطريق..إزالة المعوقات.. إلخ. من ساعتها وشيطان التفكير يهرس عقلى بتساؤلات موجعة: لماذا أهملت محافظة القاهرة احتياجات المشاة؟ يا ترى هل درس المسئولون تاريخ المرور فى العالم؟.
أظن، وكثير من الظن حلال أحيانا، أنهم لا يعرفون أن تنظيم المرور فى الأصل كان هدفه حماية المشاة لا المركبات، وحدث قبل مائة واثنين وخمسين عاما، أى فى عام 1868، بعد أن تعرض عدد من الوزراء وأعضاء مجلسى البرلمان البريطانى لحوادث من عربات الخيول، عند خروجهم ليلا من المجلس، فبنت الحكومة عمودا حديديا عند تقاطع شارع بريدج وشارع جريت جورج فى حى ويستمنستر، طوله سبعة أمتار تقريبا، وركبت عليه فانوسا غازيا دوارا ذا لونين أحمر وأخضر، تتحكم فيهما عتلة يدوية، يمسك بها شرطي. وطبعا كانت أولوية المرور للمشاة وليست لمركبات الخيول حتى لو كانت مركبة الملك نفسه. وبعد اختراع العربات الميكانيكية ظهرت إشارات المرور الضوئية فى عام 1914 لأول مرة، فى مدينة كليفلاند، بولاية أوهايو الأمريكية، ولم تتغير فلسفتها وهو توفير الأمان للمشاة وهم يعبرون الطرق. لم تهتم الحكومات بسيولة المرور بقدر اهتمامها بحماية المواطنين العابرين على أقدامهم، فمن الطبيعى أن تضع أمن البشر قبل حركة السيارات. وفى الحقيقة لم يختلف الأمر فى مصر عند دخول السيارات إليها، إلا بعد السبعينيات، إذ راح أمن المشاة يتراجع، خاصة بعد أن اختنقت القاهرة والإسكندرية مروريا إلى حد كبير. ومن يقم بجولة سواء على قدميه أو بسيارته فى شوارع القاهرة تلطمه هذه الحقيقة، فالإشارات تخص السيارات فقط، ولا أعرف شارعا به إشارات مرور للمشاة غير شارع الكورنيش فى الإسكندرية، وتحديدا أربع إشارات خلاف الأنفاق الممتدة من أول كامب شيزار إلى ميامي، ولم يلجأوا إليها إلا بعد أن أصبح (كورنيش إسكندرية مقبرة لعبور المشاة)، كما وصفته الصحف قبل سنوات. ويحمد المواطن المصرى الماشى على قدميه ربه ويشكره على نعمة اختناق الشوارع، فهى التى أتاحت له فرص العبور الآمن، فى شوارع مصر، وإن أفسدت التكاتك الفوضوية الآن بعضا أو كثيرا من هذه النعمة. شيء رائع ما حدث من بناء كبارى على التقاطعات المزدحمة فى مصر الجديدة، إذ ضاعفت سرعة المرور فى شوارعها، لكن يعيب التخطيط إسقاط المشاة من حسابات العبور. قد يعترض أصحاب السيارات خوفا من عودة الاختناقات بإشارات المشاة. لا يهم لأن حياة الناس أهم من سرعة التقاطر، ويمكن أن نحافظ على السرعة القانونية دون إشارات، بأن نبنى سلالم علوية للمشاة، مع أننا نعلم أن الناس فى بلادنا لا يلتزمون بهذه السلالم ويتركونها مقالب زبالة أحيانا ويخاطرون بأنفسهم حتى على الطرق السريعة. هذا صحيح، لأن الذى يخطط لا يحلل سلوكيات الناس، ومنهم كسالى وأغبياء ومتمردون على أى نظام، لكن أيضا فيهم عجائز ومرضى وغير قادرين بدنيا، أذن ما الحل؟ سلالم كهربائية تدار بالطاقة الشمسية، ويمكن أن تقسم التكاليف بين ميزانية الدولة والأهالي، وأقصد بالأهالى أصحاب المحال والبازارات والمطاعم والمقاهى والأنشطة المحيطة بالسلالم، وتكاليف محطة الطاقة الشمسية لن تزيد على أربعين ألف جنيه وتعمل 25 عاما دون أى مصروفات، أى الشهر بأقل من 150 جنيها طاقة، ونبدأ بالتقاطعات الأكثر خطورة.