عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
التنمر السياسى
11 يناير 2020
د. أحمد زايد


منذ ما يزيد على عشرين عاماً نشر أنطونى جيدنز، عالم الاجتماع البريطانى، كتابه الصغير الحجم الكبير القيمة، بعنوان: عالم منفلت, واصفاً عالمنا وكأنه يجرى دون أن يسيطر عليه أحد، وذلك من فرط التأثيرات الكبرى لصور الانضغاط الناتجة عن قوى العولمة. وعندما نتأمل الأحداث التى شهدها العالم خلال العشرين سنة الماضية وبعد نشر هذا الكتاب نجد أن ما ذهب إليه عالم الاجتماع الشهير يتحقق كل يوم ويتجلى ذلك فى حجم الصراعات السياسية وغير السياسية، المسلحة وغير المسلحة، ومستويات الحراك الاجتماعى العام الذى تشهده المجتمعات، وتغير العلاقة بين النظم السياسية والمجتمعات، وحجم التدخل من قبل بعض الدول فى شئون الدول الأخرى.



وفى خضم هذه التحولات شهد العالم ظواهر غريبة وشاذة، كان من أهمها ما أطلق عليها فى هذه المقالة ظاهرة التنمر السياسى. فثمة إمكانية لعقد مقارنة يتشابه فيها السلوك السياسى لبعض الدول مع الخصائص التى ترتبط بسلوك التنمر، مع الأخذ فى الاعتبار ردود الفعل تجاه هذا السلوك من الدول الكبرى. يعرف التنمر ثلاث دوائر من السلوك: الدائرة الأولى هى دائرة المتنمر نفسه الذى يصدر عنه سلوك الإيذاء أو التدخل السافر فى حياة الآخر وبطريقة متكررة. أما الدائرة الثانية فهى دائرة الشخص الذى يقع عليه التنمر حيث يتسم سلوكه بالخضوع والاستسلام أو المقاومة الضعيفة والاستنجاد بالآخرين، وفى الدائرة الثالثة تقف الأطراف المتفرجة التى يتسم سلوكها أما بالاستمتاع أو بالتشفى أو بالاعتراض.



هذه العناصر موجودة بكل تفاصيلها فى بعض الممارسات السياسية التى تبدو فى ظاهرها مقبولة ومشروعة، ولكنها تخفى فى طياتها أبعادًا تنمرية، أو أنها تشكل أحد الأضلاع الثلاثة فى مثلث التنمر، بل إن هذه الممارسات قد تخرج علناً عن الأطر المألوفة فى القوانين الدولية أو العرف الدبلوماسى، لتتحول إلى سلوكيات تنمرية ظاهرة. وإذا تعمقنا فى هذه الظاهرة فسوف نجد عند المستوى الأول نماذج سلوكية تنمرية تأخذ أشكالاً عديدة، منها: الجرأة الكبيرة على نشر الفساد على المستوى الدولى عن طريق دفع أموال طائلة من خزائن الشعوب لتحقيق انتصارات زائفة على المستوى الرياضى أو لإخراج دول من منافسات معينة، أو تمويل جماعات إرهابية لزعزعة الاستقرار فى دول معينة. ومن أشكال التنمر السافر فى هذا المستوى أيضاً عمليات التدخل فى شئون الدول الأخرى، أو فى الصراعات الدائرة فى دولة بعينها كما يحدث بشكل واضح فى التدخلات السافرة من بعض الدول، وخاصة إيران، فى شئون اليمن والعراق ولبنان، وهى تدخلات تقف حجر عثرة أمام كل الجهود لإعادة هذه البلدان إلى سابق عهدها من الاستقرار والهدوء. ومن أشد صور التنمر السياسى ما تفعله تركيا, التى تجاهر علناً بكسر القوانين الدولية عندما تحاول التنقيب عن الغاز فى أرض لا تملكها، وعندما تحاول أن ترسل قوات إلى دولة لا تشترك معها فى الحدود وليس لها معها تاريخ يذكر كدولة ليبيا. هنا يصل التنمر إلى مداه ليكشف بشكل جلى، لا عن حالة الانفلات فى سلوك الدول، ولكن عن حالة التسيب الشديد فى تطبيق القوانين الدولية والمواثيق الدولية.



وعند الضلع الثانى من مثلث التنمر نجد الدول الكبرى وأصحابها, التى تكشف ممارستها السياسية عن وعى شديد بالمصلحة يجعل التنمر السياسى بالطريقة التى وضعناها ممكناً أو مصحوبًا بالضوء الأخضر. حقيقة أن هذه الدول يصدر عنها فى بعض الأحيان أساليب تنمرية، كما تفعل أمريكا فى مسائل فرض العقوبات أو الهجوم على الدول الأخرى، ولكن الأغرب فى سلوكها هو صمتها الكبير أمام كل أساليب التنمر. صحيح أنها قد تشجب، وقد يصدر عنها خطاب سياسى ناقد لسلوكيات التنمر السياسى، ولكنها فى كل الأحوال لا تقدم حلولاً ناجعة، بل إننا نجد أنها تحاول تعقيد الأمور كلما تم الاقتراب إلى حل، كما يحدث فى ليبيا واليمن. يبدو الأمر هنا وكأن هذه الدول تريد لهذا التنمر أن يستمر، طالما أنه يخدم مصالحها، وطالما أنه يحدث الفوضى غير الخلاقة التى تريدها أن تستمر من أجل أن يزداد تحكمها فى الموارد الاقتصادية للبلاد، ومن أجل أن تستمر مصانع السلاح فى صناعة الأسلحة التى يقتل به الضعفاء بعضهم البعض.



ويبقى فى الضلع الثالث من مثلث التنمر الدول الضعيفة التى لا حول لها ولا قوة، والتى تقف بعيدًا تردد ما يقال وما قيل من قبل، وقد تستنكر وتشجب أيضاً. ولكنها تظل فى منطقة الوسط حائرة خائفة أن تجرفها آلية التنمر السياسى فى يوم ما. وتقف فى هذا الضلع أيضاً فئة رابعة من الدول ليست ضعيفة، ولكنها تطلب التنمية والاستقلال، وتأمل فى أن يكون العالم خالياً من العنف والفوضى. ورغم أن البعض قد ينظر إلى كل هذه الممارسات على أنها ممارسات عادية طالما أن الهدف الرئيس للسياسة هو تحقيق المصالح, إلا أن النظرة الأعمق تدلنا على أنها ممارسات خطيرة تدفع بالعالم إلى مزيد من الفوضى، وتدخل العالم فى صراع لا نهاية له، بل إنها قد ترجعه إلى عصور ما قبل الحداثة, حيث كانت القوة السياسية والعسكرية هى سيد الموقف. كما تدلنا هذه النظرة على أن تمدد هذه الممارسات غير المنضبطة (المنفلتة) واتساع نطاقها وتأثيرها يخلق نكوصاً أخلاقياً فى العالم، وأن العالم ينفض يده كل يوم عن الأخلاق. نحن نعرف حقيقة أن ثمة تعارضاً بين ممارسات السياسة وممارسات الفضيلة، ولكن المواثيق الدولية وضعت ضوابط وأحكاما تمثل إطاراً أخلاقياً لممارسة السياسة، وتجعل للسياسة هدفًا ثانيًا يسير جنباً إلى جنب مع تحقيق المصالح، ألا وهو تحقيق التعاون والسلام. لذا فإننى إذا كنت قد بدأت هذا المقال بالإشارة إلى انفلات العالم كما يفهمه علماء الاجتماع، فإننى أنهيه بالتأكيد على أن الانفلات الذى يعانيه العالم ليس انفلاتًا فى تكنولوجيا الاتصال وتقانة المعلومات فقط، ولكنه انفلات فى عالم السياسة، ينعكس فى صور من الاستعلاء والتنمر، ولاشك أن تضافر كل هذه الصور من الانفلات يعمل على تفتيت الرابطة الاجتماعية وروح الاجتماع الإنسانى، مما يعجل بأُفُول النظام العالمى وفنائه.