الثقافة ليست أمرًا هامشيًّا أو ثانويًّا في حياة الأمم والشعوب، إنما هي مكون رئيس في حياتها، وهي أحد أهم عوامل مواجهة التحديات وفك شفراتها، والتعامل بمنهجية معها، بل إن كثيرًا من المشكلات التي تعانيها كثير من المجتمعات ترجع في بعض جوانبها إلى ضيق الأفق الثقافي، أو ضعفه، أو انغلاقه، أو حتى انسداد شرايينه، فالثقافة قضية حياة.
والثقافة التي ننشدها هي الثقافة التي تبني ولا تهدم، وتعمر ولا تخرب، لا ثقافة تلك الجماعات المتطرفة التي تتبنى مناهج الهدم والتخريب، لا تألو على دين، ولا وطن، ولا قيم، ولا خلق، ولا ضمير إنساني حي. الثقافة التي نبحث عنها ونعض عليها بالنواجذ هي ثقافة النور في مواجهة ثقافة الظلام، ولا شك أن انطلاق صالون الأهرام الثقافي الأول بالشراكة مع وزارة الأوقاف فاتحة خير، ونقطة تحول وانطلاقة مهمة في واقعنا الثقافي الراهن، ونؤمل أن يكون مع الوقت ما يتبعه من الصالونات الفكرية والثقافية والعلمية علامة مضيئة في تاريخنا الثقافي المعاصر.
لقد أدت المجالس العلمية والأدبية والنقدية في العصرين الأموي والعباسي دورًا بارزًا في النهضة العلمية والثقافية، وكانت مجالس عبد الملك بن مروان علامة بارزة في العصر الأموي، ومجالس المأمون علامة بارزة في العصر العباسي، إضافة إلى مجالس الفقهاء والأدباء والنقاد والوجهاء والأعيان، وكانت هناك مجالس النساء جنبًا إلى جنب مع مجالس الرجال، كمجلس السيدة سكينة بنت الحسين (رضي الله عنهما) الذي كان منارة ثقافية في العصر الأموي، كما كانت مجالس العقاد، وطه حسين، ومي زيادة، وغيرهم منارات إشعاع في العصر الحديث، مما يجعلنا نؤمل كثيرًا في انطلاق صالونات المؤسسات الإعلامية والثقافية الكبرى.
وقد انعقد صالون الأهرام الثقافي الأول بالتعاون مع وزارة الأوقاف المصرية بحضور نخبة متميزة من القامات الثقافية والإعلامية وحضور واسع لجمع من المثقفين والمعنيين بالشأن الديني، وتناول موضوع الشأن الديني العام كامتداد للجلسة التحضيرية الرابعة لمؤتمر الحديث في الشأن العام وعلاقته بالأمن القومي، وكلتا الجلستين آتت أكلها، وأينعت مبكرًا ثمارها، فأحدثت كل منهما حراكًا فكريًا ومناقشات جادة ، فقد أكدنا أن الحديث في الشأن العام قضية أمن قومي، وأن الشأن العام يشمل كل ما يتجاوز القضايا الخاصة بالفرد إلى القضايا العامة للمجتمع أو شريحة منه، بما ينعكس أثره على المجتمع أو فئة واسعة من أبنائه، وأن قضايا الشأن العام تتسع للشأن العام الديني، والشأن العام السياسي، والشأن العام الاقتصادي، والشأن العام الاجتماعي، والشأن العام الثقافي، والشأن العام الرياضي.
وجاء اللقاء الثاني حول الشأن العام الديني من باب ذكر الخاص بعد العام لأهمية وخصوصية هذا الأمر، فخطاب ديني وسطي سمح رشيد منضبط يسهم وبقوة في قضايا البناء والتعمير وتحقيق الأمن المجتمعي والأمن النفسي، كما يسهم في تحسين مناخ العلاقات الإنسانية في المجتمع, وتحقيق وسائل الاندماج وقبول الآخر وفقه العيش المشترك بين أبنائه، في حين أن اختطاف جماعات التطرف للخطاب الديني يقود بالطبع إلى الهدم والتخريب والفرقة والشتات وتدمير الأوطان, مما يجعل من مواجهة هذا الفكر والاصطفاف الوطني في مواجهة قوى الإرهاب والشر مطلبا دينيا ووطنيا وإنسانيا في كل مفاصل حياتنا، ولاسيما الثقافية والإعلامية منها .