قبل ساعات قليلة وربما قبل دقائق من تصويت البرلمان العراقى على قرار إخراج القوات الأمريكية من العراق كان السؤال المهم الذى يشغل الكثيرين هو ما هى حسابات الرد الإيرانى على جريمة الاغتيال الأمريكى للجنرال قاسم سليمانى رئيس «فيلق القدس» فى «الحرس الثورى الإيراني» ومعه أبو مهدى المهندس نائب رئيس «الحشد الشعبي» العراقى على الأراضى العراقية، لكن بعد تصويت البرلمان بالإيجاب على توصية عادل عبد المهدى رئيس الحكومة العراقية بإخراج القوات الأمريكية من العراق، وهو التصويت الذى تزامن وتطابق مع ما تضمنه الخطاب التأبينى الذى ألقاه السيد حسن نصر الله الأمين العام «لحزب الله» اللبنانى من حسم للموقف الواجب اتخاذه من محور المقاومة للرد على جريمة الاغتيال هذه أضحى السؤال الأكثر أهمية هو: ما هى حسابات وسيناريوهات المواجهة الإيرانية - الأمريكية بعد جريمة الاغتيال وليس مجرد الحسابات الإيرانية.
كانت الساعات التى أعقبت الاغتيال وحتى صدور القرار العراقى وحسم حسن نصر الله موقفه الشخصى وموقف «حزب الله» ومجمل قوى المقاومة، مفعمة بتصريحات نارية أمريكية كان هدفها الردع المسبق وتحجيم الرد الانتقامى الإيرانى بشتى السبل، حسب ما صرح به على فدوى نائب قائد الحرس الثورى من أن بلاده تلقت رسالة من واشنطن بعد مقتل قاسم سليمانى «تدعوها لأن يكون ردها على الاغتيال متناسبا»، وأوضح أن «الأمريكيين لجأوا إلى الطرق الدبلوماسية صباح الجمعة (4/1/2020) وقالوا إذا أردتم الانتقام فانتقموا بشكل متناسب مع ما فعلناه»، وإذا كان فدوى لم يوضح كيف تلقت طهران هذه الرسالة، إلا أن محمد جواد ظريف وزير الخارجية قال فى مقابلة تليفزيونية مساء الجمعة إن «الموفد السويسرى (ترعى سويسرا رسميا المصالح الأمريكية فى إيران بسبب انقطاع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين) نقل رسالة حمقاء من الأمريكيين هذا الصباح»، وتابع بعد ذلك «تم استدعاء المسئول فى السفارة السويسرية فى المساء وتلقى ردا خطيا حازما.. على رسالة الأمريكيين الوقحة».
وتزامن مع هذا التواصل غير المباشر الذى تضمن اعترافا أمريكيا صريحا بالجريمة وتضمن أيضا يقينا بأن إيران سوف ترد، كما تضمن ما يعتبر رجاء وهو تحجيم الرد الإيرانى وألا يكون انتقاميا وموسعا أكد هذه الاستنتاجات كثافة الوساطات الدبلوماسية السريعة المباشرة (عمانية وقطرية). وغير المباشرة عبر أطراف دولية، ما يعنى أن الولايات المتحدة باتت تعيش «رعب الرد الإيراني» وأنها لا تريد فتح جبهة حرب موسعة مع إيران فى المنطقة فى وقت لا تتحمل فيه الإدارة الأمريكية مثل هذه الحرب فى ظروفها الانتخابية شديدة التعقيد خصوصا أن كل ما كانت تستهدفه من عملية اغتيال قاسم سليمانى هدفين أولهما انتخابى محض.
هذا التخطيط الأمريكى لاحتواء الإيرانيين فشل فى ظل الإصرار الإيرانى عبر تصريحات كبار القادة السياسيين والعسكريين وعلى رأسهم المرشد الأعلى السيد على خامنئى بأن «القصاص أضحى شرعيا ولابد منه» وأن «حال ما بعد الاغتيال لن يكون مثل ما كان قبله»، وأن الأمريكيين سيواجهون أوضاعا شديدة الصعوبة حتما سوف تنتهى بهزيمتهم ورحيلهم، لذلك حاول الأمريكيون ضبط ردود الفعل الإيرانية الغامضة عبر توجيه تهديدات شديدة القسوة ضد إيران جاء بعضها على لسان الرئيس ترامب الذى هدد بضرب قوى لـ 52 هدفا إيرانيا، بينها مواقع ثقافية، بعدد الأمريكيين الـ 52 الذين تمت محاصرتهم داخل السفارة الأمريكية عام 1979 فى حال وقوع أى اعتداء إيرانى على مواقع أو أشخاص أمريكيين، تهديدات مايك بومبيو وزير الخارجية كانت أكثر سخونة، لكنها كانت أشبه بـ «صفير الليل فى الطرقات المظلمة» أى تصريحات لتهدئة الترويع الداخلى الذى يشعر به القادة الأمريكيون تحسبا للانتقام الإيراني.
كانت هذه هى حسابات ما قبل تصويت البرلمان العراقي، على توصية عادل عبدالمهدى الذى خيّر البرلمان بين قرارين: إما اتخاذ قرار يقضى بإجراء تخفيض تدريجى للوجود العسكرى الأمريكى على أرض العراق وإما اتخاذ قرار فورى بإنهاء هذا الوجود، ورجح عبد المهدى الخيار الثانى وهو ما صوت عليه المجلس، ما يعنى أن معركة العراق المقبلة هى إنهاء الوجود العسكرى الأمريكى على الأراضى العراقية بكل ما يعنيه ذلك من حسابات عسكرية وسياسية واقتصادية، وأن الأمريكيين باتوا المعنيين بالرد على هذا القرار.
جاء خطاب حسن نصر الله ليحسم خياره الشخصى وخيار قوى وتيار المقاومة ليؤكد أن الانتقام لقاسم سليمانى وأبو مهدى المهندس ليس مسئولية إيرانية بحتة بل مسئولية كل قوى المقاومة، وأن الانتقام سيكون على مساحة جغرافية ممتدة وواسعة، وأن القرار هو إنهاء الوجود العسكرى الأمريكى على كل الأرض العربية ابتداء من العراق ومن كل عسكرى أمريكى على الأرض العربية دون أى تعرض من أى نوع لأى مدنى أو دبلوماسى أو مصالح اقتصادية أمريكية، واستهداف الجيش الأمريكى وأفراده باعتبارهم من نفذوا جريمة الاغتيال.
تهديدات نصر الله تلاقت مع تهديدات عادل عبد المهدى فى المعنى المتضمن والذى يؤكد أن عدم الانتقام الحاسم سيعطى ضوءا أخضر لعهد قادم من الاستباحة الأمريكية والإسرائيلية للسيادة وللكرامة العربية، وأن القضاء على الوجود العسكرى الأمريكى سيتضمن ميلاد فجر جديد من التحرر العربى وسينهى الوجود الصهيونى فى فلسطين.
هذا يعنى أن المواجهة ستكون شاملة وليست إيرانية فقط ضد المواقع العسكرية الأمريكية وفق ما حدد المستشار العسكرى للمرشد الإيراني، لكنها لن تكون «الحرب الشاملة» رغم ذلك فإن هذه المواجهة الممتدة والشاملة حتما لم يحسب ترامب حسابها لأن كل ما كان يخطط له هو مجرد مكاسب انتخابية ضيقة وإذا به يواجه بتهديدات قد تنهى ليس فقط طموحاته الانتخابية بل مكاسب أمريكية دفع الأمريكيون أثمانا باهظة لتحقيقها على مدى عقود طويلة من الصراع على الأرض العربية، كما يعنى أن المنطقة كلها باتت مهددة بأجواء شديدة الخطورة والتعقيد والارتباك لكل الحسابات ولكل الأطراف وهو ما لم يحسب ترامب حسابه، ولم يفكر فيه.