صارت الهوية أحد الشرور الكبرى التى تُلعن فى كل مناسبة خلال العقدين الأخيرين. فقد ازداد الاهتمام بقضية الهوية منذ أن نشر صامويل هنتنجتون مقالته المشهورة عن صدام الحضارات فى مجلة «فورين أفيرز» عام 1993، ثم عمل عليها بعد أن أثارت جدلا واسعا وحولها إلى كتاب صدر فى 1996. كان هنتنجتون يرد على أطروحة فرانسيس فوكوياما عن نهاية التاريخ، إذ جادل بأن الصراع لم ينته، بل صار ثقافيا، وأن الاختلافات الثقافية صارت مصدره الأساسي.
واتجه هنتنجتون إلى تطوير أطروحته وتحديدها، بعد أن بدت غائمة بشكل ما، فى كتابه من نحن؟ تحديات الهوية الوطنية الأمريكية الصادر عام 2004، إذ صار واضحا أنه يقصد الصراع بين الهويات، وأن هذه الهويات ثقافية أى تنهض على قيم معينة. وحدد مقومات الهوية ـ الأمريكية فى قيم الحرية والمساواة والفردية والمشروع الخاص.
وبقيت هذه النظرة إلى الهوية دون مراجعة منذ ذلك الوقت، وظلت مرتبطة بالقيم الثقافية بمعناها الواسع الذى يشمل الأديان والعقائد والمذاهب والأعراف، فضلا عن الأفكار والأيديولوجيات.
غير أن اختزال الهوية فى القيم الثقافية يناقض الواقع فى كثير من الحالات التى تحرك المصالح الاقتصادية فيها خلافات وصراعات تأخذ فى ظاهرها شكلا ثقافيا، وأبرزها الآن تلك التى تزداد فى كثير من الدول الأوروبية بشأن الموقف تجاه الاتحاد الذى يجمعها.
التفسير الشائع لهذه الصراعات هو صعود النزعات القومية التى تعبر عن هوية كل دوله، وترفض التكامل والاندماج خوفا على الخصوصية الثقافية. ولكن الحديث عن خصوصية ثقافية هنا غير منطقى فى ظل ثقافة واحدة، إذ يدور الصراع بشأن الاتحاد الأوروبى بين أصحاب الثقافة نفسها، وليس ضد ثقافات أخري.
ولذا، حان وقت مراجعة هذا الاختزال، انطلاقا من أن النزعة القومية الصاعدة فى عدد متزايد من الدول الأوروبية ترتبط بمصالح اقتصادية، إذ يدور الصراع بين المنتفعين من البقاء فى اتحاد كان لكبار أصحاب المال والأعمال الدور الأساسى فى هندسته، والمتضررين من استمرار العضوية فيه. وأكدت أنماط الاقتراع فى الانتخابات البريطانية الأخيرة، مجددا، أن المصالح الاقتصادية هى المحرك الأول للنزعات القومية المضادة للاتحاد الأوروبى.