عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
قمة كوالالمبور ورسائلها الإقليمية
26 ديسمبر 2019
محمــد أبــوالفضــل


ربما لم يسمع كثيرون فى مصر عن أن هناك قمة إسلامية اختتمت فى كوالالمبور عاصمة ماليزيا السبت الماضي، لأنهم لا يتصورون أن تعقد قمة على هذا المستوى دون مصر والسعودية، بينما حضرتها قطر وتركيا وإيران، بجانب الدولة المضيفة. وقد تكفى أسماء هذه الدول للتعرف على أهداف ورسائل القمة الإقليمية.



المثير أنها جاءت فى الوقت الذى ملأت فيه الدوحة الدنيا ضجيجا عن مصالحة سياسية وشيكة مع السعودية، تطوى بها الخلاف الممتد والمتشابك معها. دعك من تركيزها على الرياض فقط، وعدم الاكتراث بالمصالحة مع باقى دول التحالف الرباعي، مصر والإمارات والبحرين. ودعك من الحيل التى استخدمتها قطر لتصوير الأمر على أنها نجحت أخيرا فى تجاوز مقاطعتها، وتوقف عند الخدعة التى أرادت تمريرها بالتعاون مع حليفتيها أنقرة وطهران، والتى تتلخص فى زرع كيان إسلامى مواز لمنظمة التعاون الإسلامي، لسحب البساط من دولة المقر، وهى السعودية، التى لها مكانة وجدانية فى قلب العالم الإسلامي.



أرادت الدول الثلاث إحداث قطيعة حادة بين الدول الإسلامية العربية ونظيرتها الاسيوية، وفِى مقابل تنحية مصر والسعودية سعتا إلى جذب باكستان واندونيسيا إليهم. قد يكون اختيار ماليزيا مفهوما، حيث تحولت إلى مركز ثقل جديد لجماعة الإخوان المسلمين وأعوانها، وأبدت قيادتها تعاطفا لافتا مع كثير من الحركات الإسلامية، واندفعت فى هذا الطريق الذى كاد يجرفها لكثير من الأزمات الأمنية والسياسية فى ظل أوضاع اقتصادية صعبة. فماليزيا مهاتير محمد اليوم المكبلة بالمشكلات الدقيقة غير ماليزيا مهاتير بالأمس صاحب البصمات العريقة والتطورات العملاقة. ولذلك أدرك الرجل الخدعة متأخرا ولم ينسق حتى النهاية وراء ما أرادته قطر وتركيا وطهران من غوايات سياسية مجهولة.



تقزمت القمة عندما اعتذر رئيس وزراء باكستان عمران خان عن المشاركة فى اللحظات الأخيرة. فقيادة اسلام آباد الحالية تجمعها كيميا سياسية مع مصر والسعودية والإمارات أسهمت فى تقاربها حول جملة من الأفكار، فى مقدمتها الموقف الحاسم من المتطرفين والدول الداعمة لهم، وبرعت الدوحة وأنقرة وطهران فى التجاهر بدعمهم، وتسببت التصرفات التى أقدموا عليها فى مشكلات إقليمية لا تزال تراكماتها باقية. وبدت الدول الثلاث كأنها تريد إعادة رسم خريطة جديدة تجعل من المتشددين رأس حربة فيها. فكيف تؤيد باكستان محورا يمكن أن تمتد نيرانه إليها مباشرة؟ وهى الدولة التى تعانى إرثا متضخما بالمتطرفين الذين اشتد عودهم خلال وبعد فترة الحرب المريرة فى أفغانستان.



نجت اندونيسيا بنفسها أيضا من الفخ، واعتذر رئيسها جوكو ويودود عن المشاركة فى قمة كانت يمكن أن تهدم نتائجها المعبد على بلده المعروف بالتسامح، ويعانى من شراذم المتطرفين، فهل من المعقول أن يضع يده فى عِش دبابير ويوارب الباب ليتسلل إلى من يرعونهم إلى بلاده؟ لم تنطل جميع الحيل عليه، وبدا متسقا مع قناعاته وحريصا على روابط جاكرتا التاريخية فى المنطقة العربية، ونأى عن حضور قمة أريد لها أن تؤدى لترتيبات لا قبل له بها وسط حربه ضد الإرهاب والحركات ذات الأجندات العقائدية، وتمت الدعوة لها وسط أجواء تتصارع فيها الدول التى دعت لها على استلاب القيادة من أصحابها الأصليين.



أخفقت قطر وتركيا وإيران فى إقناع دول عدة بأن ما يربطهم من تحالف أكثر مما يفرقهم، وأصبح هناك اقتناع بأن القواسم التى تجمعهم قليلة ووليدة أزمات تمر بها كل دولة على حدة. ولم تفلح علاقات التعاون فى مجالات مختلفة فى ترسيخ فكرة التحالف الاستراتيجى أو المحور القادر على تحريك الأحداث فى المنطقة حسب طموحاته وأحلامه. سعوا إلى المزيد من خلط الأوراق بالنظر إلى الفضاء الآسيوي، والعزف على وتر منطقة قد تصبح رديفا مهما لهم، وتمنع عن دولة مثل السعودية أحد روافدها المعنوية والمادية.



راهنوا على أن تشكيل منظمة منافسة يقلل من نفوذ السعودية ويحرمها من علاقات وطيدة فى المنطقة الآسيوية. مشكلة هذا المحور أن أطرافه الثلاثة تتصرف كأنها تمسك بجميع الخيوط. تقرب هذا وتبعد ذاك، وتتوحد وتتباين بعد لحظة، ويغلب على خطابها السياسى التناقض والازدواجية. وفى أحيان كثيرة تتعامل مع الدول بمنطق العصابات التى تستطيع أن تسيل لعاب قادتها برمى حفنة من الدولارات أمامهم، كما تفعل قطر مع الكتائب المسلحة فى ليبيا، وتركيا مع عصابات الإرهابيين فى سوريا، كذلك تمارس إيران لعبة شبيهة مع الميليشيات فى العراق ولبنان والمتمردين الحوثيين فى اليمن.



حاولوا إعادة تسويق اللعبة وخداع الناس بها عبر عقد قمة فى كوالالمبور على عجل، لكن لم يسعفهم المنهج الميليشياوى فى الحصول على نتائج إيجابية مع الأطراف المستهدفة. وجرى تخطى واحدة من الفرص التى حسبت دولة مثل قطر أنها سوف تمكنها من قيادة منطقة الخليج، وتنزع الشرعية الرمزية للسعودية بلد الحرمين الشريفين، ثم تتطلع للمنطقة العربية برمتها وتبعد مصر بلد الأزهر الشريف.



ومن الواضح أن ما فشلت فى الحصول عليه عبر دعم المتشددين يصعب أن يأتيها بطرق أخرى أكثر تعقيدا. فإذا كانت تركيا وإيران انجذبتا لقطر فيما تسوقه على أنه حصار رباعي، فذلك لتلاقى المصالح وليس دعما لريادة سياسية. فعندما يجد أحدهما أو كلاهما مصلحة بديلة مع آخرين لن يتردد فى التضحية بالدوحة، ويندفع ناحية الجهة التى تحقق أغراضه.



تتجاهل هذه الدول أن محاولات تغيير الواقع والقفز على حواجز الجغرافيا السياسية له كوابحه، فالفريق المقابل لديه أدوات فتاكة يمكن أن تبطل مفعول السخاء مع الميليشيات والدول أيضا. واستوعبت السعودية معالم الخطة مبكرا ونجحت فى نزع جميع أسلحتها بنعومة، ولم نر ضجيجا حول عقد قمة إسلامية حقيقية مناهضة، أو رعونة فى التنديد بقمة كوالالمبور، رأينا نتيجة على الأرض تقول إن رحلة قطر إلى ماليزيا عادت بخفى حنين. بانتظار مؤامرة أخرى يتم اعدادها. فالمعركة التى تخوضها الدوحة وأنقرة وطهران قاسية لأنها ترقى إلى إثبات الوجود ولن تتوقف عند فشل معين. تنتهى عندما تتلقى الدول الثلاث أو إحداها هزيمة ساحقة. بعدها يمكن الحديث عن تفكيك تحالف جمعته أهداف وأزمات متقاربة.



مرت محطة كوالالمبور كطيف سريع، لكن لم تمر إشاراتها الإقليمية، لأنه يمكن إعادة إنتاجها بصيغة أخري، على المستوى الإسلامى أو العربي، ومن غير المستبعد التفكير فى تحركات جديدة للمحور القطرى التركى الإيرانى المأزوم حاليا، حتى لو كان لم يستطع توسيع دائرته، ولم يتمكن من تعميم خطابه. غير أن التحديات التى تواجهها الدول الثلاث على الصعيدين الداخلى والخارجى قد تقلب الطاولة رأسا على عقب.



وما تتعرض له طهران من ضغوط متشابكة بسبب تدخلاتها الإقليمية يقف شاهدا. وما تعانيه منه أنقرة من تفسخ حزبى جراء مغامراتها المفتوحة فى سوريا وليبيا وشرق البحر المتوسط سوف يجلب عليها المزيد من المتاعب. ويكفى قطر أن علاقتها الوطيدة مع المتطرفين والجماعات الإرهابية شوهت توجهاتها العربية والإسلامية.