عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
لعب.. بجـد!
29 نوفمبر 2019
000; 000;


لم أستطع احتمال جيشان عواطفى فانهمرت عليه، أُقبِّل رأسه وأنا أضمه وأضغطه فى صدرى. مازال صغير الحجم برغم استطالة عوده، ومع نحافته وجلسته المحتبية التى تعوَّدها منذ صغره، كنت أستطيع استيعابه كله بين ذراعى وهو إلى جوارى على كنبة الصالة.



كان لدهشته من انفعالى هذا المفاجئ والعاصف يردد متفلِّتا، ومسرورا: «بابا مالك.. بابا». وبصعوبة شديدة تحكمت فى دموع تأثرى وأنا أختلس النظر إليه.



كنت أقرأ وهو جالس إلى جوارى يشاهد التليفزيون فى صمت، صمته الشفاف هذا الذى يركن إليه بين موجات الصخب التى لا يكف عن إثارتها فيبدو كأنه كائن آخر، وبينما كنت أقلب صفحات الكتاب، حانت منى نظرة عابرة إلى ما لفت نظرى على قصبتى ساقيه اللتين انحسرت عنهما أرجل البيجامة وهو فى جلسته المُحتبية المُعتادة تلك، يضم ركبتيه إلى صدره.



كانت هناك شعيرات طالت وتكاثرت على هذا الجزء الظاهر من ساقيه، ساقى صبى يوغل فى يفاعة العمر، وتذكرت بما يشبه التماعة نجم فى سماء الذاكرة تاريخ ميلاده، تذكرت ذلك مبهورا، فطفلى هذا صار فى الخامسة عشرة، وبعد سنوات قليلة سيصير شابا.. يحب، ينتشى، ويتلوّع، ويفكر فى مستقبله.. يحلم بعالم خاص به لا أشاركه فيه، وربما أكون غير قادر على مشاركته فيه.



سيكون عليه مواجهة الحياة منفردا، بدونى، بدون حمايتى، وفى أركان عديدة من زوايا هذا العالم التى سيتعين عليه أن يمضى إليها وحده، وهناك لن يمكننى أن أواصل حراسته ولن يُجدى حدبى عليه. وربما لا أكون موجودا، أو موجودا وأُضاف إلى الأعباء التى سيتعين عليه حملها من أثقال عالمه الجديد، عالم الرجال.



أُقبِّل رأسه، كتفيه، أضمه، وأتمتم «ياحبيبى.. ياحبيبى»، وهو يتفلَّت مُخافِتا ضحكته، خجِلا، ومُستغرِبا هجمة عواطفى المفاجئة عليه، يردد: «بابا..فيه إيه.. فيه إيه»، وفى تفلُّته أحس بسروره من نوبة هذه المحبة، وخجله من الاستسلام لها، خجل بين استكانة الطفولة التى تمضى، ونزق الشاب الذى يجىء، وأجد نفسى أمامه أجمد فى ارتباك.



ينفك جمودى إذ ألمح سانحة للخروج من الارتباك، فأهتف معليا النبرة: «تكاسرنى»، وبسرعة يرد طفلى اللعبى الذى أعرفه: «ياالله حالا»، وأجده فى ثانية متخذا مكانه على مائدة الطعام يشمر ساعده ويركِّز كوعه مجربا قبضته المتحدية المرفوعة فى انتظار قبضتى.



سوَّينا ارتكاز مرفقينا على خط واحد، والتقت كفى بكفه التى اكتشفت نموها وإن ظلت قابلة للاحتواء داخل قبضتى، واهتزت قبضتانا مُراوِحتين فى ارتفاعهما ودفعهما المتشنج، لكننى عندما أرخيت لأتيح له انتصارا سهلا لطالما كان يصدقه ويهلل به ويفرح، وجدته يصيح بحزم صوت يفاجئنى اخشوشانه: «بابا.. العب بجد».



قاومت بين لين وشدة، واكتشفت قوة بازغة فى الساعد المستقوى الذى طالت بعض شعيراته، والتقت أعيننا المتواجهة بصرامة، واحترت.. هل أمضى فى التحدى، أم أوثر الانسحاب؟ لكننى اخترت إعلان التعادل بنشوة مرتعشة وتطلُّعٍ آمِل، مُقِرّاً بأنه.. كاد يغلبنى.