عبدالمحسن سلامة
علاء ثابت
«سينما مصر».. عاشت لتبقى
9 نوفمبر 2019
باسم صادق


من هبوط اضطرارى.. وأيامنا الحلوة.. وقهوة سادة إلى بعد الليل.. وسلم نفسك.. وسينما مصر.. تاريخ طويل رصد فيه المخرج خالد جلال علاقته بالوطن.. مهموما بفكرة تعميق العلاقة بين المتلقى/ المواطن بأرضه وعِرضه.. متمسكا بتلك الصلة الوثيقة بين الماضى والمستقبل مرورا بالحاضر.. وبخطورة التفريط فى هذه العلاقة الزمنية التى ستظل دوما سببا فى صمود الوطن أمام أمواج الحقد والغيرة المتلاحقة ومحاولات النيل منها.






وفى عرضه الأحدث «سينما مصر» ينطلق بمفهوم جديد يدعم رؤاه فى أهمية ملفات ذاكرة الوطن القادمة من الماضى ولكنه يهديها إلى من عاش ليبقى دائما فى مستقبلنا فى دلالة واضحة إلى تاريخ الفن المصرى الذى أثرى الوطن العربى بأكمله عزةً وكرامة ووطنية.. فعن عمد وحرفية اختار فيلم الليلة الأخيرة المنتج عام 1963 بتوقيع يوسف السباعى وكمال الشيخ.. ليكون رابطا دراميا يبرز رسالته فى الدعوة للتمسك بذاكرة الوطن ورفض محاولات هدمها.. فمستقبل الوطن فى تاريخه العريق.. ولم يكن ذلك التماهى بين موضوعى الفيلم والعرض المسرحى مجرد حالة عابرة تبرر استدعاء أكثر من 45 مشهدا سينمائيا من أروع ما تربينا عليه.. ولكنه تم تضفير وغزل أحداث الفيلم بأحداث العرض لخلق نسيج درامى متماسك.. مستغلا فى ذلك كل مدلولات الفيلم بدءا من موضوعه ووصولا إلى أسماء الشخصيات التى لم يفته استغلالها دراميا.. فتلك الفتاة المدعوة نادية برهان صادق.. تجسد الوطن العفىّ النضر المقاوم دائما كل محاولات اختراقه بتاريخه ووطنية أبنائه باعتبارها برهانا صادقا على تجذر حضارة الوطن فى عمق التاريخ.. بينما وظف المخرج 67 طاقة تمثيلية هادرة لأول مرة فى تاريخ دفعات مركز الإبداع الفنى لتجسيد أروع مشاهد السينما بوصفها ترجمة فنية راقية لحال المجتمع على مر السنين بتوقيعات مختلفة ومدارس إخراجية وتأليفية متنوعة لعظماء مصر.. فيستهل العرض باستدعاء أهم الجمل الحوارية فى فيلم الليلة الأخيرة بأداء انفعالى لأبطاله وهم يرتدون ملابس السهرة الرسمية.. ثم تتداعى مشاهده مع تقديم مجموعة مختارة بعناية من المشاهد السينمائية.. بينما تطل نادية عليها بين الحين والآخر وكأنها فى تحد مع ذاتها باستحالة سحق هويتها المتماسة مع هويتنا الفنية العملاقة.. وتتلاحق مشاهد الفيلم الأصلى/ الرابط الدرامى بأداءات متفجرة لعلامات فنية رصدت أحلك وأروع لحظات الوطن بمرور الزمن.. فأصاب المخرج بتناولها أكثر من هدف.. ومنها رصد أهم أحداث الوطن وتطوره بنيته مجتمعيا.. ومنها إعادة تنشيط ذاكرة المتلقى بأننا أصحاب هذه القوة الناعمة العملاقة وأن فقدانها يعنى الغرق فى بئر سحيق من التيه والنسيان.. ومنها إعادة اكتشاف المَشاهد ورؤيتك لها بعين جديدة بتأمل أكثر عمقا خاصة وهى مجسدة عبر وسيط فنى مغاير للسينما مثل المسرح بكل عنفوانه وحيويته.. وأمام كل ذلك المحتوى الفكرى العميق ترجم المخرج رؤاه بصريا برؤية إخراجية فاتنة لتكوينات المشاهد المختلفة تأكيدا لمعناها.. منها مشهد معبودة الجماهير الذى ارتكز فيه الغناء أطراف منطقة التمثيل لصاحبات الصوت الهادر الأربع أميرة رضا.. منار الشاذلى.. حبيبة وفرح حاتم.. وهن ينشدن أغنية بلاش عتاب بصحبة أحمد فوزى.. ومنها مشهد عرق البلح .. والمتوحشة بأداء بسمة ماهر البسيط المعبر.. فلم يكن أداء الممثلين أقل إثارة وحرفية عن رؤية مخرجهم فرغم أنهم أمام تحد صعب جدا يحتم مقارنتهم بأصحاب تلك الشخصيات الدرامية.. إلا أنهم لم يسعوا إلى التقليد بقدر سعيهم إلى إبراز قدراتهم الأدائية على التشخيص دون أن يفقدوا العمل الأصلى بريقه معتمدين فى ذلك على قدر من الكاريكاتورية المفجرة للضحك والإعجاب.. ومنهم مثلا حسن عبدالله فى شخصية نجيب الريحانى.. ايمان غنيم فى أدوار نادية وفاتن حمامة.. رنا خطاب وريهام الشنوانى اللتين جسدت كل منهما شخصية زينات صدقى بأدائين ومذاقين مختلفين تماما يخص بصمة كلتيهما دون الشعور بأى تكرار.. غادة طعت التى صارت لصيقة بروح مارى منيب بطل التى لا تنسى.. وغيرهم من الأبطال المجتهدين جدا.. سينما مصر حالة إبداعية فريدة ترسخ منهج خالد جلال كمخرج دراماتورج معتمدا على مدرسة الارتجالات المدروسة بعناية والتى وصلت اليوم إلى هذا القدر من النضج والوعى فى مخاطبة وجدان الجمهور..