فى شهر مايو 1973 هطلت على مصر، وخاصة القاهرة، أمطار غزيرة، وكانت النتيجة حالة من الشلل المرورى ومعه العمل والإنتاج فى العاصمة، فضلا عن المشاهد البائسة والمحزنة فى مثل هذه الظروف. حدث ذلك قبل شهور من حرب أكتوبر، وساعتها كان الوصف هو أن الدولة غرقت فى شبر ميه، وإذا كان الحال كذلك فكيف يمكنها خوض حرب وتحرير الأرض المحتلة. كان هناك نوع من الشماتة، واستغلال الكثيرين من أعداء الدولة فى الداخل والخارج لهذا المشهد؛ ومن المرجح أن الحالة أسهمت دون قصد ولا نية فى تكوين رأى عن انعدام القدرة المصرية على فعل شيء صحيح وقادر على عبور قناة السويس فى حرب حديثة. وباختصار كانت الطبيعة تساعد فى تحقيق المفاجأة الاستراتيجية التى جرت بعد شهور فى حرب عظيمة.
تكرر الحدث ذاته بعد ذلك مرات عديدة، وكان آخرها ما جرى قبل عام فى القاهرة الجديدة التى غرقت فى شبر ميه هى الأخرى، وفى كل مرة فإن الأحداث يجرى استغلالها فى التشهير، ونادرا ما تحدث الإشارة لما يحدث فى اليوم التالي. ففى معظم الأحوال كانت الدولة المصرية تتحرك بكامل قواها لكى تنتهى الأزمة، وفى الحالة الأخيرة التى جرت قبل أسبوعين فإن 24 ساعة كانت كافية لكى يعود الجفاف للأرض، والحركة للمركبات. ولكن الهجمة لم تتوقف، فسرعان ما جرى الاستغلال لحادثة محزنة لسقوط شابين من قطار توفى أحدهما وأصيب الآخر إثر خروجهما من قطار متحرك فصار مفتش القطار الذى ارتكب الجرم أو أساء التصرف ممثلا لوزير النقل والدولة المصرية. وبهذه الطريقة فإن المسألة باتت حصادا يوميا لحوادث بعضها يعود للطبيعة، وبعضها الآخر يعود للبشر، وتتم إعادة تفصيلها وتركيبها من جديد لتأكيد عدم كفاءة الدولة فى القيام بواجباتها فى حملات إعلامية منظمة لا تخرج من واقعة إلا وتدخل فى أخري.
ويجرى ذلك بكثافة شديدة تحاول قدر الإمكان خلق امتدادات للأحداث التى جرت وتطورت فى العشرين من سبتمبر الماضي، وجزء من الحرب الإعلامية والسياسية التى يجرى شنها كل يوم على الدولة المصرية من قنوات تليفزيونية ومواقع إلكترونية وأدوات إعلامية شتي.
فى هذه الحملة هناك الكثير مما هو مسكوت عنه، فلا أحداث الطبيعة ولا أخطاء الأفراد لها مكانها وحجمها فى بلد تخطى المائة مليون نسمة وارتفعت وتعقدت توقعاته مع إمكاناته وقدراته. ومنذ أسابيع وفى زيارة للولايات المتحدة تعرضت مدينة هيوستن، المقر الذى تنطلق منه رحلات الفضاء، لعاصفة اختلطت فيها الرياح مع الأمطار وانتهى الأمر إلى إغلاق المطارات لفترة، ومعها كان شلل المدينة لقرابة أسبوعين. مثل هذه العواصف ليست جديدة على المدينة، بل إنها نوع من طبائع الأشياء التى تجرى فى مدن الساحل الجنوبى الشرقى حول خليج المكسيك. وعندما وصلت المدينة كانت قد عادت إلى طبيعتها بعد جهد كبير قامت به الدولة والولاية والمدينة والمواطنون.
ما جرى بات ذكرى تضاف إلى ذكريات حزينة سابقة، وبعدها تعود الحياة إلى سابق عهدها؛ وفى مصر فإن كل واقعة يجرى احتضانها وامتصاص رحيقها البائس حتى يجبها حادث آخر. أدوات التواصل الاجتماعى التى استخدمت فى هيوستن لمساندة الشرطة ووسائل الإنقاذ، وتمهيد الطرق المفتوحة صارت لدينا نوعا من جلد الذات واللطم على الخدود، ومن قبل جماعة الإخوان المسلمين فى قنوات المنفى التليفزيونية تمهيدا لثورة مقبلة أو لتمرد على وشك الحدوث؟!.
المسكوت عنه فى هذه الهجمات هو أنه لن تجد فيها أبدا ذكرا لكثير من الأمور التى كانت مسبقا أدوات للجلد واللطم؛ فلا هناك ذكر للقوة المتزايدة للجنيه المصرى يوما بعد يوم والذى كان دائما هو عنوان الانهيار الاقتصادى الذى سوف يحدث فى مصر قبل صباح الغد. ولن تجد أبدا إشارة إلى تقرير صندوق النقد الدولى الأخير عن مرحلة الإصلاح الاقتصادي, وهو التقرير الذى كان دوما معتمدا للإشارة إلى حالة التدهور الجارية فى أحوال البلاد. لن تحدث أبدا إشارة إلى تقارير ومؤشرات مؤسسات دولية مالية واقتصادية معتبرة, وبالطبع لن ترد صورة ولا رسم لما يجرى فى البلاد من نمو وتنمية لها مؤشراتها الكلية والجزئية، كما أن لها وجودها الصلب على أرض الواقع فى مدن وطرق ومدارس ومستشفيات وجامعات وأحياء للفنون والتراث.
المعضلة أن أحيانا تقع جماعة من مفكرينا فى ذلك الاختيار الصعب ما بين المدن والقوة الناعمة، وما بين بناء قصر والتعليم، وما بين محور قناة السويس وتنمية الصعيد. والحقيقة أنه لم ترد فى بلد لا نهضة ولا حضارة دون التنمية فى كل ذلك. وفى زمن الحداثة المصرية جرى حفر الترع المحمودية والإبراهيمية والاسماعيلية وقناة السويس، وفى ذات الوقت قامت القاهرة الخديوية ومعها مدن القناة الثلاث، وجرت فى مصر السكك الحديدية والتلغراف والصحافة، بينما كانت تقوم أحياء راقية فى مصر الجديدة والزمالك وجاردن سيتى والمعادي، ويجرى بناء جامعة القاهرة ويؤسس لبنك مصر. ولو أن المصريين القدماء قاموا على ذلك الاختيار الصعب ما بين العمران التاريخى الذى يعيش لقرون وألفيات واحتياجات الحياة من تعليم وصحة وغذاء لما كانت هناك أهرامات ولا معابد الكرنك والأقصر ولا جوامع وقصور السلاطين والملوك، ولا كنائس الشهداء الكبرى، ولا دور للأوبرا ومسارح للفنون.
المعضلة الكبرى فى مصر ليست فقط إعلامية لا تشرح أو تقدر أو تضع الأمور فى نصابها الاستراتيجى والشامل لعملية تطور كبيرة لها ما لها وعليها ما عليها، وإنما هناك فجوة قائمة بين قوة مصر الصلبة وقوة مصر الناعمة، يغيب فيها الحوار والتحالف فى مواجهة قوى بربرية عاتية وجبارة فى تخلفها. مثل ذلك لا يفيد المشروع المصرى الجارى القائم على إدارة الثروة والطموحات الكبرى للحاق بالعصر، ولا خدمة المشروع المقابل القائم على إدارة الفقر والمقايضة البائسة بين كل شيء، وفى الحقيقة المستقبل المصري، ونصيب الغلابة. الأحوال فى مصر ليست كلها وردية، ولكنها أيضا ليست مظلمة أو قاصرة كما يريد لها الأعداء أو كما يصفها الأصدقاء.